تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[مهاجر]ــــــــ[03 - 11 - 2009, 05:31 م]ـ

ومن قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)

فذلك شرط آخر في معرض الإلهاب إذ ليس الأمر مقصورا على أمر الآخرة إذ كثير من النفوس لا تصبر على شظف العيش، فالفقر مفسد لها، مشغل لها عن الطاعة، وهذا غالب على المكلفين، إذ لا تنصرف الهمم غالبا إلى تحصيل معالي الأمور إلا بعد استيفائها حاجاتها الضرورية، ولذلك ورد النهي عن الصلاة بحضرة الطعام لئلا يشوش الجوع على المصلي مع وجود الطعام الذي يرفعه، فيكون ذلك مظنة العجلة وعدم إعطاء الأركان حقها، للتفرغ إلى الطعام مع كونه أدنى قدرا من الصلاة، ولكن الهمة حال الاحتياج إليه قد تعلقت به وقدمته على ما هو أعلى منه قدرا، فلا يخرج عن حد الإباحة أو الاستحباب إذا أريد به غيره من التقوي به على الطاعة، فجهة الثواب لا تتعلق بأصله، بخلاف الصلاة المرادة لذاتها، فهي دائرة بين الوجوب في الفرائض، والاستحباب في النوافل، وهما أعلى منزلة من المباح، إذ معنى التعبد فيهما كائن، فليس خارجا عنهما كالمباح الذي لا يتعبد به، بل ذلك، عند التحقيق، محرم، لكونه شرعا لما لم يأذن به الله، عز وجل، بإحداث عبادة لم يأت بها شرع منزل، وإنما غايته أن يكون ذريعة إلى غيره من الواجبات أو المندوبات، على حد التقوي به لأدائها، كما تقدم، فيكون مرادا لغيره، والمراد لذاته أشرف بداهة من المراد لغيره.

وقد عمم أهل العلم هذا المعنى، فكل شاغل صارف للذهن تجب إزالته قبل الشروع في الطاعة، فلا يصلي المرء وهو جائع أو ضامئ أو نعسان لا تحمله قدماه، على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"، فالعلة متعدية لا تقتصر على صورة الصلاة بحضرة الطعام فقط، إذ النص على حكمها لا يخصص عموم المعنى، بل يشمل ذلك كل صور الانشغال المزعج، وذلك مما يشهد لقول من اعتبر العموم المعنوي فلا يقصر العموم على الألفاظ، فعموم المعنى يثري النصوص بتكاثر الصور الداخلة تحتها دخول الأفراد تحت عموم جامع لها.

وإلى هذا المعنى أشار ابن خلدون، رحمه الله، بقوله: "إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله، من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات، ويتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها. بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال، لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها، فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك. وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد، كما بلغنا عن أهل مصر، أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب. لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة. أدام الله عمرانها بالمسلمين. والله الحكيم العليم". اهـ

فالنص وإن تطرق إلى صناعات تافهة تدل على ترف نفوس محترفيها إلا أن المعنى العام صحيح فإن التفرغ للشيء جليلا كان أو حقيرا لا يكون إلا بعد استيفاء حاجة النفس من الضروريات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير