تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا استوفت النفس الحاجيات الضرورية صارت أهلها لتحصيل معالي الأمور سواء أكانت فرائض، كما تقدم، أم كانت نوافل من الفروض الكفائية التي لا تزدهر إلا في جماعات قد أدت ما عليها من الفروض العينية، فلا يصح شغل الأذهان بأمور فرعية، وإن كانت شرعية معتبرة، قبل استيفاء الأصول تحريرا وتصحيحا، فلا تتصور دعوة إلى الأخلاق الحميدة قبل تحرير وتصحيح العقيدة، ولا تتصور دعوة إلى نوافل الأعمال والفرائض لما تستوف، ولا يتصور طلب للعلم، وإن كان من أشرف الوظائف، إذا قام الفرض العيني بجهاد الدفع إذا دهم العدو محلة للمسلمين، فواجب الوقت على أهلها دفع العدو لا تحصيل العلم، وهكذا يقدر لكل وقت واجبه، فمن سدده الباري، عز وجل، إلى تحصيل ذلك، فعرف واجب وقته فلم يقدم عليه شيئا، ولو كان طاعة مثله، فليحمد الله، عز وجل، على تلك النعمة التي تحفظ له وقته وجهده، فتظهر بركة التوفيق الرباني في عمله، فهو قليل في مبناه، كثير في معناه، إذ قد وضع في موضعه، فلم يقدم المفضول ويؤخر الفاضل، بل كل، كما تقدم، قد وضع في موضعه اللائق به.

والشاهد أن الشرط في هذه الآية مستوف لشطري القسمة العقلية: جزاء الآخرة الآجل الذي تتطلع إليه النفوس الكبيرة، وجزاء الدنيا الذي تقف عنده همم النفوس الضعيفة، ففي اتباع الشرع المنزل ما يحقق كلا الأمرين، وإنما يبتلى الممتثل للشرع ابتداء بنوع ضيق مؤقت ليمحص فإذا صبره الله، عز وجل، انقلب الغم فرحا، والضيق سعة، فإن الشدائد بتراء لا دوام لها، وقل من يثبت في تلك المواضع الحرجة التي ينكشف فيها ضعف النفوس وخورها إلا إذا شاء الرب، جل وعلا، تثبيتها بفضله ومنته، وسؤال الله، عز وجل، السلامة، في الدين والدنيا حتم لازم في الأزمنة التي تتكاثر فيها الفتن والابتلاءات.

فلو أقاموا التوراة والإنجيل، وذلك شاهد لما تقدم من كون لفظ: "أهل الكتاب" عاما يشمل الفريقين: اليهود والنصارى، فالتوارة كتاب اليهود، والإنجيل: كتاب النصارى، فلو أقاموا التوراة والإنجيل على حد تصديق خبرها وامتثال حكمها، ومن ذلك: تصديق البشارات بالنبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدم التحايل عليها بالكتمان والتأويل، وامتثال الحكم الملزم باتباعه، إذ هو رسول الثقلين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فرسالته عالمية لهم ولغيرهم، وهم أولى الناس باتباعه لتواتر خبر النبوات عموما، وخبر نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم خصوصا عندهم، فعندهم من العلم ما ليس عند غيرهم كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

فإقامتهما لا تعني إقامة كل أحكامهما لما علم بالضرورة من نسخ كثير منها بالشريعة الخاتمة، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، وإنما المراد، كما تقدم، إقامة ما تحصل به نجاتهم من التصديق والإقرار والاتباع للرسول الذي يجدونه مكتوبا عندهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت في أعناقهم كما في آية الأعراف.

ثم جاء عطف ما أنزل إليهم من الكتاب العزيز، ففيه مئنة من إلزامهم به خلاف ما ادعوا من اختصاصه بالعرب، فهو نازل لهم ولغيرهم على ما تقدم من عالمية الرسالة،، وقدم الجار والمجرور: "إليهم": مئنة من اختصاصهم بذلك وإن لم يكن الأمر خاصا بهم دون بقية الأمم فهو جار مجرى القصر الادعائي على سبيل المبالغة في رد دعواهم خصوصية الرسالة بالعرب دون غيرهم، وإضافة الرب، جل وعلا، إليهم في معرض إنزال الوحي تأنيس لهم، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله، فإن الوحي روح القلوب فهو من النعم التي يلائمها وصف الربوبية، ربوبية الإنعام، فزيد في تذكيرهم بتلك النعمة على حد ما تقدم من استئلافهم بنسبتها إلى ربهم، جل وعلا، فهي أعظم نعمة وأجل منة لو فقهوا.

فلو فعلوا ذلك:

"لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ": على ما اطرد من التوكيد في معرض الوعد ترغيبا، فاللام في جواب "لو" مؤكدة للمشروط الواقع بالتزام الشرط.

وذكر الجهتين: "مِنْ فَوْقِهِمْ"، و: "مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ": إما أن يراد به حقيقته فالأرزاق تنزل من السماء وتنبت من الأرض، فالسماء فوقهم والأرض تحتهم، أو هو كناية عن الخير الذي سيعمهم إذا آمنوا بالوحي السابق والوحي اللاحق المصدق له، وإلى ذلك أشار أبو السعود، رحمه الله، بقوله: "وقيل: المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين، كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة". اهـ

وحذف معمول فعل الأكل إرادة العموم فذلك آكد في سياق الترغيب، إذ التخصيص في سياق الترغيب أو الامتنان ينغص على المتنعم نعمته، وهو مخصوص بالنقل والعقل بما أحله الله، عز وجل، من الطيبات، وليس في ذلك نوع تنغيص إذ لا منة أصلا بمحرم، فهو مما تتأذى به النفوس فكيف يمتن الله، عز وجل، على عباده به، وإنما خلقه ابتلاء لتظهر بذلك آثار حكمته، وخلقه تقريرا لعموم خلقه كل الكائنات طيبها وخبيثها، لتظهر بذلك آثار قدرته.

وفي معرض الإنصاف لهم إذ ليسوا سواء جاء الجواب عن سؤال مقدر بـ: هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، جاء الجواب بقوله: "مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ" كابن سلام، رضي الله عنه، ومن آمن من أهل الكتابين، فيدخل فيهم من وصفهم الله، عز وجل، بقوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).

وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ: ممن عاند وكابر كابن أخطب وكعب بن الأشرف، أو ضن بملكه ورياسته كهرقل. فذلك ذم قياسي لصنيعهم.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير