وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ): فذلك من التنزل في الخطاب مع الخصم، بافتراض المحال الذاتي، فلا يلزم من افتراضه إمكانه فضلا عن وقوعه، لا سيما مع تصدير الشرط بـ: "إن" التي تدل على ندرة وقوع الشرط، كما تقدم، وهو هنا على حد المحال لقرينة تنزه الباري، عز وجل، عن الصاحبة والولد، إذ لا ينفك اتخاذهما عن وصف الافتقار إليهما، وذلك نقص مطلق يمتنع في حق الله، عز وجل، امتناعا ذاتيا بدهيا إلا عند من فسدت فطرته فتلطخت بأدران الشرك بتشبيه الله، عز وجل، بآحاد خلقه ممن يفتقرون إلى الصاحبة لقضاء الوطر والولد لحفظ النوع.
وقوله: "والله يعصمك من الناس": تهدئة لروعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليطمئن فؤاده فيتفرغ لأداء الرسالة، فناسب معنى الوعد فيها، كما يقول صاحب "التحرير والتنوير"، رحمه الله، أن يقدم المسند إليه، وأن يأتي المسند على حد المضارعة مئنة من التجدد والاستمرار.
وعصمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عصمة بلاغ، إذ يجري عليه ما يجري على بقية البشر من عوارض المرض والموت، بل قد سحر جسده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتسلط أعداؤه بقدر الله، عز وجل، الكوني على بدنه الشريف، ابتلاء له لترتفع منزلته بالصبر على ذلك الابتلاء والصفح عمن آذاه، على حد قوله: "أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ شَرًّا" فيحصل درجة ما كان ليحصلها لولا ذلك الابتلاء، كما قال بعض أهل العلم في معرض الانتصار للقول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن صغائر الخسة المزرية دون بقية الصغائر، إذ بارتكابهم تلك الصغائر غير القادحة في المروءة يحصلون عبوديات من توبة ونحوه ترتفع بها درجاتهم عند ربهم، جل وعلا، فلولاها ما بلغوها، إذ قد جعل الله، عز وجل، لكل شيء سببا.
يقول ابن تيمية، رحمه الله، في "منهاج السنة":
" فإنهم، (أي: أهل السنة)، متفقون على أن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى وهذا هو مقصود الرسالة فإن الرسول هو الذي يبلغ عن الله أمره ونهيه وخبره وهم معصومون في تبليغ الرسالة باتفاق المسلمين بحيث لا يجوز أن يستقر في ذلك شيء من الخطأ وتنازعوا هل يجوز أن يسبق على لسانه ما يستدركه الله تعالى ويبينه له بحيث لا يقره على الخطأ كما نقل أنه ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ثم إن الله تعالى نسخ ما ألقاه الشيطان وأحكم آياته فمنهم من لم يجوز ذلك ومنهم من جوزه إذ لا محذور فيه فإن الله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ...... وهم متفقون على أنهم لا يقرون علي خطأ في الدين أصلا ولا على فسوق ولا كذب ففي الجملة كل ما يقدح في نبوتهم وتبليغهم عن الله فهم متفقون على تنزيههم عنه وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها فلا يصدر عنهم ما يضرهم كما جاء في الأثر: كان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وإن العبد ليفعل السيئة فيدخل بها الجنة.
وأما النسيان والسهو في الصلاة فذلك واقع منهم وفي وقوعه حكمة استنان المسلمين بهم كما روي في موطأ مالك: إنما أنسى أو أنسى لأسن وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" أخرجاه في الصحيحين ولما صلى بهم خمسا فلما سلم قالوا له يا رسول الله أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا فقال الحديث .......... ". اهـ
و: "أل" في "الناس": عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو أعداؤه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المشركين واليهود والنصارى، إذ ليس منهم أصحابه وأولياؤه بداهة.
ثم جاء التذييل على حد الفصل فهو علة ما قبله فناسب ذلك الفصل على ما اطرد مرارا من شبه كمال الاتصال بين العلة والمعلول، جاء التذييل إمعانا في طمأنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ:
فلا يهديهم فيما هم بصدده من إيذائك بل يعصمك منهم، وتعليق الحكم بوصف الكفر الذي اشتقت منه الصفة المشبهة مؤذن بعلية ذلك الوصف للحكم، فلا يهديهم لكفرهم، وليس المراد الهداية الشرعية على ما ارتضى صاحب التحرير والتنوير، رحمه الله، لعدم ملائمة السياق لذلك فالأولى حمل النفي على عدم هدايتهم إلى أمر يؤذون به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد يقال بأن عموم النفي يشمل عدم هدايتهم في كلا الأمرين فلا هم مهتدون شرعا، وإن وقع لهم من هداية الدلالة ما أقيمت به الحجة عليهم، ولا هم مهتدون فيما هم بصدده من إلحاق الأذى بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمكان عصمته.
والله أعلى وأعلم.
¥