تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

توكيد بـ: "إن" لإسناد الحكم الذي ذيلت به الآية: "فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" للمسند إليه الذي صدرت به الآية وقد جاء موصولا: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا" يفيد العموم من وجه، ويفيد التعليل من وجه ثان، إذ علق الحكم على الوصف الذي اشتق منه: "الإيمان"، و: "اليهودية"، ويفيد التشويق بإجمال الموصول المتلو ببيانه الذي دلت عليه جملة الصلة فضلا عن التشويق ابتداء بتصدير الخبر بالتوكيد وتقديم المسند إليه فتطلعت النفس إلى معرفة الحكم الصادر عليه الذي يفيده المسند.

فإن الذين آمنوا والذين هادوا، فذلك عام قد خص بالبدل: "مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا"، فيكون ذلك من الإطناب بذكر الخصوص بعد العموم احترازا، إذ ليس الحكم عاما، وإنما الحكم خاص بمن هذا وصفه، فخرج بذلك اليهود الذي عاصروا الرسالة فكفروا بها، ومن جاء بعدهم من خَلَفهم الذين تبعوهم على التكذيب، إذ لم يؤمن أولئك بالله واليوم الآخر، عند التحقيق، وإن أظهروا ذلك، فإن الإيمان بتلك المسميات التي دلت عليها أسماء: "الله" و: "اليوم الآخر" لا يكون بمجرد الإيمان بالأسماء، فهي ألفاظ مشتركة بين سائر الرسالات، بل اسم الله، عز وجل، اسم عالمي لا تكاد تخلو منه لغة من لغات البشر، فهو من هذا الوجه مشترك لفظي، فلا تحصل النجاة بمجرد الإيمان به دون وصفه، فإن الله، عز وجل، هو الاسم العلم على ذات المعبود، وهذا قدر تشترك فيه سائر الأمم، ولكنها تفترق في القيد الآتي: الدال على ذات المعبود بحق الذي له من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الجارية على سنن القدرة النافذة والحكمة البالغة، ما جاءت به النبوات، وفصلته النبوة الخاتمة تفصيلا لا يفتقر إلى مزيد بيان، فليس إله اليهود الذي صرعه يعقوب، وليس إله النصارى الذي صلبه اليهود، وليس إله الهندوس الذي حل في البقرة، وليس إله الحلولية الذي يحل في كل مكان، وليس إله الاتحادية الذي اتحد بذاته القدسية بكل عين ولو سفلت ونجست، وإنما هو العلي بذاته العلي بوصف كماله، الأول الذي له أزلية الذات وأزلية الصفات على حد الكمال المطلق، الآخر الذي له الأبدية والبقاء الذاتي والوصفي على ذات الحد من الكمال، فلا يفتقر إلى سبب يبقيه بل هو الباقي بذاته المبقي لما شاء من مخلوقاته في دار السعادة فضلا أو دار الشقاوة عدلا ........... إلخ من أوصاف كماله التي لا تحصى على حد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".

وكذلك الإيمان باليوم الآخر فإن توراة اليهود المبدلة تكاد تخلو من ذكر الآخرة، وأخلاقهم المادية النفعية التي تستبيح كل المحرمات تحصيلا لأسباب الثروة والقوة المادية فرع عن تلك التوراة التي ندر ذكر دار الجزاء فيها، فإن ذكر الآخرة مما يرقق القلوب فتزهد في حظوظ الدنيا الزائلة، ويقوي ملكة المراقبة للرب، جل وعلا، في كل قول وفعل، إذ كل صغير وكبير مستطر، فالصغائر مسطورة قبل الكبائر، فلا يغفل عن ذلك مؤمن باليوم الآخر، ولسان حال يهود: الكفران باليوم الآخر، وإن أظهروا بلسان المقال خلاف ذلك، فهي دعوى تفتقر إلى البرهان العملي، وأعمالهم شاهدة بضد ذلك فهي أعمال من لا يرجون حسابا.

فتبين أن تخصيص عموم المبدل منه: "الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا"، بالبدل: "مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا" قد أزال الإجمال، إذ خرجت به أفراد كثيرة من عموم الموصولين اللذين صدرت بهما الآية، فالإطناب هنا قد أفاد قيدا فارقا، فضلا عما اطرد من كلام البلاغيين في مبحث التقييد بالبدل من كون المبدل منه غير مقصود بالحكم أصالة، فمحط الفائدة: البدل، فيكون المبدل منه جاريا مجرى الموطئ للبدل، فأفاد نوع تشويق إلى محط الفائدة لو أجريت المسألة على حد ما اطرد من كلام البلاغيين في الخصوص بعد العموم، فذلك أحد أنواعه، إذ المبدل منه ظني الدلالة لعمومه بخلاف البدل فإنه قطعي الدلالة لخصوصه الرافع لأي احتمال فبه يحصل كمال البيان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير