تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن من أهم وظائف أداة الإبداع هي مقاومة عجرفة المفاهيم وتحدي صلف الرأي وتعسف الأحكام المطلقة، أداة تقضي بأنك قد تكون على صواب والمنطق الذي تستخدمه لا خطأ فيه، ولكن تقضي بأنك تبدأ من معتقدات إعتباطية وتستخدم مفاهيم على نحو مستبد مأخوذة من خبراتك أو خبرة عامة لثقافة محددة. ذلك بأنها لا تتعامل مع الفكرة بحد ذاتها وإنما تواجه العجرفة المحيطة بها. فالأساطير هي أنماط تتشكل داخل العقل ليس لها وجود في الواقع ولكن تتحكم في نظرتنا للأشياء بذا تتوصل إلى تبرير زائف بفعل أحكامها المباشرة. أما التفكير الإبداعي فيقوم بتعليق الأحكام لإتاحة الفرصة لتفاعل المعلومات وتلاقح الأفكار بطريقة إستثارية وإستفزازية تعمل بعيداً عن المنطق السائد .. وهنا يتجلى بريق إنارة النبي " ص " عندما قال: " للمجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ ". إنارة توضح مدى تفكك وعقم المنطق الأرسطي ومدى تقزمه أمام عظمة وخصوبة المنهج النبوي من حيث أن الحاجة تستدعي أحياناً أن نكون على خطأ في طريقنا إلى الحل طالما أن هناك مشاكل مستعصية وشرسة لا يمكن حلها بالبراهين المتاحة، والحل الوحيد لعلاجها هو إعادة تنميطها بمشرط الإستبصار الجامع بين المنطقى و اللامنطقى ..

في ضوء أعلاه ..

وبعيداً عن زخرف الإستلاب السياسي ومسوغات منطقة النرجسي ..

بعد توقيع إتفاق المبادئ-أوسلو- وصف الشهيد أحمد ياسين هذا الإتفاق قائلاً: " هذا الإتفاق إجتهاد خاطئ " .. لاحظوا أن الشيخ إستخدم تعبير سلفي وليس سياسي. تعبير يحمل معاني الثقة والتقدير للشهيد ياسر عرفات وينزه ساحته عن أي شبهة سياسية أو قيمية، بل يؤكد بأنه لم يتجاوز هامش المناورة المسموح بها شرعاً ولكن .. فوجئ الجميع بالشيخ يتخذ بعد خروجه من السجن قراراً بالموافقة على المشاركة في مؤسسات الحكم والإنتظام في إطار النظام السياسي الوليد بلا شروط ولا تحفظات .. مع الأخذ بعين الإعتبار أن هامش المناورة محدودة أمام العقل السلفي والشيخ لم ولن يجامل بفتوى تعبث بالأصول من أجل الفروع .. وجاء الرد الإسرائيلي على فتواه بسرعة الضوء ناثراً أشلاء الشيخ وعجلته بطريقة تخفي ذعراً وهلعاً غير عادي إنتاب دوائر العدو من فتواه لأنها بإختصار كشفت عن الحلقة المفقودة في أجندات مجلس مقدس يوجه هذه الدوائر إنطلاقاً من تصورات ماورائية منحولة تترجمت واقعاً بتصريح جولدا مائير لصحيفة اللوموند قائلة: " وجدت إسرائيل تنفيذاً لوعد الرب ولهذا لا يصح أن نسأله إيضاحاً عن شرعية هذا الوجود " .. أما نيتانياهو فيقول: " لا يوجد إلا إسرائيل ولا نعرف سوى إسرائيل الكبرى التي وعدنا بها الرب" .. من هنا نفهم مدى حساسية الدولة العبرية إتجاه فتوى الشيخ كونها تستند إلى بينات ما ورائية صادرة من نفس المشكاة التي يستند إليها المجلس المقدس بصرف النظر عن إقراره بذلك أم لا فإنكار الحقائق لا يلغي وجودها. ولا تحريفها سيغير من وقوعها وهذا ما عبر عنه نيتشه قائلاً: " الإسطورة هي الوجه الآخر للحقيقة " ..

عندما لقى مئات الإسرائيليين مصرعهم وجرح الآلاف بفعل العمليات الإستشهادية لم تتحرك الطائرات لإغتيال الشيخ، أما حين إتخذ قراره التاريخي كان من المفترض أن يحظى بترحيب وحفاوة إقليمية ودولية!! .. ولكن جاء رد حمل السلام والديمقراطية بسرعة البرق مغايراً لكل التوقعات؟! .. كان الشيخ يعلم أنه إتخذ قراراً إستشهادياً كما إتخذه الرمز الخالد في كامب ديفيد عندما رفض التزحزح قيد أنملة تتجاوز الخيط الدقيق الذي يفصل حدود الإجتهاد عن حدود الخيانة ودعاهم ببرود إلى جنازته فالخطب على قدر العزم ..

لقد قفز الشيخ قفزة سوبر نوعية بمعانيها الفكرية ودلالاتها السياسية، جعلت أعداء الثورة الفلسطينية يتسمرون رعباً ويقفوا على قدم فهي أشبه ما تكون بقفزة الدب الروسي .. فالشيخ لن يصدر فتواه مهما كان الثمن قبل أن يتحقق من تكامل أركان وتوافر شروط الحكم الرشيد في نظامنا السياسي، وهذا لم يحدث في أي مكان آخر في ديارنا وهو ما يفسر حالة الإحباط والتخبط والقلق لدى الكيان العبري وإصراره على قرع طبول الحرب والتهرب من إستحقاقات السلام. قفزة ثاقبة سدت الثغرة اللعينة في خاصرة هذا النظام الرشيد ومنحه مناعة قطعت الطريق على لعبة الثنائيات المفخخة .. شرعي إصلاحي .. رجعي تقدمي .. ديني علماني .. سلفي حداثي ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير