تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

غَمَرَتْنِي الْمَسَرَّةُ حِينَ عَايَنْتُ عَلَى شَاشَةِ الْحَاسُوبِ كَلِمَاتٍ نقلَتْهَا الأثيرُ إِلَيْنَا مِنْ مَهْدِ الْعَربِيَّةِ وَحَرَمِهَا الّذي نَشَأَتْ وَتَرَبَّتْ فيِ أَحْضَانِهِ، وَحَمَلَتْ مِنْهُ الرِّسَالَةَ الْخَالِدَةَ إِلىَ أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ. ظلَلْتُ سَارِحًا عَبْرَ نَفَقِ الزَّمَانِ الْمَاضِي بُرْهَةً وَأَنَا أَقْراُ كَلِمَاتِكَ النَّابِئَةَ عَنْ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَمَقَاصِدَ غَالِيَةٍ، وَسَرِيرَةٍ نَقِيَّةٍ، وَأَخْلاَقٍ زَكِيَّةٍ، وَسَجِيَّةٍ طَيِّبَةٍ، وَصَبْرٍ جَمِيلٍ، وَوَفَاءٍ وإِخْلاَصٍ ... قرأتُهُا وَكَأنِّي أَطُوفُ بِعَرَصَاتِ بَنِي سَعْدٍ وَأَسْتَنْشِقُ مِنْ ذَلِكَ الْهَواءِ الطّلقِ الَّذِي تَرَبَّى فيِ رَحَابِهِ الرَّسُولُ الأَكْرَمُ عَلَيْهِ السَّلاَم؛ أَوْ كَأَنيِّ أَلْقَى أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فيِ شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، أَلْتَمِسُ شيئًا مِنْ حِكْمَتِهِ، فَيَقُولُ ليِ:» تَعِيشُ غَرِيبًا وَتَمُوتُ غَرِيبًا، كَمَا عِشْتُ غَرِيبًا وَمُتُّ غَرِيبًا «. فَلَمْ يَلبَثْ حَتَّى نَقَلَتْنِي كَلِمَاتُكَ إِلىَ عَالَمٍ آَخَرَ، وَكَأَنِّي عَلَى طَرَفٍ مِنْ أَرِضِ يَرْمُوك، يَمُرُّ بيِ رَهْطٌ مِنْ أَبْطَالِهَا مَرَّ الْكِرَامِ وَقَدْ ظَفَرُوا بِالنَّصْرِ، غَيْرَ أَنَّ أحَدًا مِنْهُم لَمْ يَنْبَسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، فَأَرَانِي مَرْفُوضًا، وَمَا ذَاكَ لأنِّي رَضِيتُ بِالْمُقَامِ بَيْنَ قَومٍ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُون!

هَكَذَا، وَعَبْرَ هَذَا النَسِيمِ الْعَاطِفِيِّ دَخَلَتْ كَلِمَاتُكَ فيَ قَرَارَةِ نَفْسِي. كَلِمَاتٌ تُنْبِئُ عَنْ قَلْبٍ نَابِضٍ بِحَيَاةِ الإِيِمَانِ الصَّادِقِ، وَعَزِيمَةِ الَعَبْدِ الْمُتَنَبِّهِ الْمُتَحَاشِي مَوَاقِعَ الزَّلَّةِ، الْكَارِهِ لِلْفُتُورِ وَالرُّكُونِ إِلىَ الأَرْضِ. لَقَدْ نَذَرْتَ نفْسَكَ لالْتِزَامِ جَانِبِ الحَقِّ فيِ مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرةٍ مِنْ مَسِيرةِ حَيَاتِكَ إِذَا قِسْنَاكَ بآلاَفٍ مِنْ أَمْثَالِكَ الّذِينَ تَهُبُّ بِهِمْ عَوَاصِفُ الْهَوَى وَهُمْ بَيْنَ أَقْدَامِ الشَّيَاطِينِ يَرْكُلُونَهُمْ نَحْوَ الْمَرْمَى الَّذِي مِنْ دُونِهِ الْهَاوِيَةُ.

هَنِيئًا لَكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ! وَقَاكَ اللهُ تَعَالىَ شُرُورَ الْيَوْمِ، وَشَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ، وَلَقَّاكَ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَأَذَاقَكَ مِمَّا أَذَاقَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ مِنْ حَلاَوَةِ نِعَمِهِ الَّتِي لاَ نَفَادَ لَهَا. وَحَسْبُكَ هَذَا الْقَلْبُ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْمُتَيَقِّظُ الّذِي لَمَسْتُ مِنْهُ خِلاَلَ أَلْفَاظِكَ هَوَاجِسَ الْحِيطَةِ أَكْثَرَ مِمَّا لاَبُدَّ مِنْهُ. إنَّهُ يُشْعِرُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَلَلِ، يُخْبِرُنَا بِأَحْزَانِهِ عَلَى مَا حَلَّ بالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْخَلَلِ، وَيُحَدِّثُنَا عَنْ شُجُونِهِ عَلَى مَا تَعَرَّضَ صَرْحُ هَذِهِ اللَّغَة الْعِمْلاَقَةِ مِنَ الدَّمَارِ الشَّامِلِ عَلَى يَدِ أَبْنَاءِهَا – وَالْعَيَاذُ بِاللهِ -. وَمَا أَشَدَّ غَرَابَةً أَنْ تَتَوَاطَأَ أُمَّةٌ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا عَلَى الْخِيَانَةِ بِكِيَانِهَا! إِذِ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ أَسَاسُ كِيَانِهَا، وَرَمْزُ أَمْجَادِهَا، وَخِزَانَةُ تُرَاثِهَا، وَمَاءُ حَيَاتِهَا ... وَلَكِنِّي أَرَى أَلاَّ نَتَعَجَّبَ لِوُقُوعِ شَيْءٍ يَجُوزُ فيِ مِيزَانِ الْعَقْلِ وَدِيوَانِ التَّجَارِبِ. وَلاَبَدَّ هُنَا أَنْ نُدْرِكَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقِيمَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَبَيْنَ مَوْقِفِ الإِنْسَانِ مِنْهَا، لأَنَّهَمَا مُخْتَلِفَانِ كُلَّ الاخْتِلاَفِ فيِ الذَّاتِ والْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَشِيجَوٌ قَوِّيَّةٌ. فَاللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ قِيمَةٌ مِنَ الْقِيَمِ الْفِطْرِيَّةِ السَّامِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ لُغَةٍ، وَآَيَةٌ مِنْ آَيَاتِ اللهِ الْكُبْرَى. إِنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَنْ تَتَغَيَّرَ عَنْ طَبِعَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ، وَلَنْ تَخْسَرَ شَيْئًا مِنْ سُمُوِّهَا الْمَنِيعِ فيِ أَبْعَادِهَا الْقُرْآَنِيَّةِ الْمُتَنَاهِيَةِ وَإِنْ أُهْمِلَتْ، كَمَا لَمْ تَتَزعْزَعْ جُذُورُهَا الرَّاسِخَةُ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير