وفي هذا الحديث أثرٌ مِن سجيّته التي نبّه عليها يحيى بن سعيد، فقد روى الحديثَ عن ابن أبي بردة عن أبيه، قاله مشكدانة عن ابن فضيل عنه. وخالفَ مشكدانةَ الرفاعيُّ والأخنسيُّ، والقول قوله إذ هما ضعيفان.
- فمحمد بن يزيد الرفاعي قال فيه البخاري: ((رأيتهم مجتمعين على ضعفه)). وقال أبو حاتم: ((ضعيف يتكلمون فيه)). وقال النسائي: ((ضعيف)). وقال الحاكم: ((ليس بالقوي عندهم)).
- وأما أحمد بن عمران فقال فيه البخاري: ((يتكلمون فيه، منكر الحديث)). وقال أبو حاتم: ((لم أكتب عنه وقد أدركتُه)). وقال أبو زرعة: ((تركوه)). وقال الأزدي: ((منكر الحديث غير مرضي)). وضعّفه العقيلي.
- ومشكدانة ثقة وهو أثبت منهما، وقد أثبت واسطة بين يونس وأبي بردة.
@ الانقطاع بين يونس وأبي بردة: يونس فضلاً عن تدليسه، فالانقطاع بينه وبين أبي بردة ظاهرٌ في حديث أبي نعيم، فقد قال أبو نعيم: ثنا يونس بن أبي إسحاق أنه تلا قول الله عز وجل "وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبَّعون"، فقال: أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه قال: ((نزل رسول الله ... )) الحديث. فلم يذكر صيغة الأداء، ولو كانت "فقال" مِن كلامه – أي "فقال أبو بردة" - فهي انقطاع أيضاً.
ولكن .. هل سمع يونس من أبي بردة؟ لقد أخذ ابنُ المديني بظاهر سند حديث "لا نكاح إلا بوليّ" الذي رواه يونس مرةً عن أبيه عن أبي بردة، ومرّةً أسقطَ أباه. فاعتمد عليه ابن المدينيّ في سماع يونس مِن أبي بردة. وقد وقع عند الدارمي في سننه (2185) عن أبي نعيم قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق: "حدثني أبو بردة بن أبي موسى"، وهو حديث (تستأمر اليتيمة). ولذا قال الحاكم في معرفة علوم الحديث (): ((ومن الناس من يتوهم أن يونس بن أبي إسحاق لم يسمع من أبي بردة بن أبي موسى وإنما هو عن أبيه عن أبي بردة. وليس كذلك. قال علي بن المديني: "سمع أبو إسحاق من أبي بردة، وسمع يونس بن أبي إسحاق من أبي بردة كما سمع أبوه")). اهـ
قلتُ: أمّا كلام ابن المديني فقد أخرجه الحاكم في المستدرك (2716) في حديث (لا نكاح إلا بولي) من طريق قبيصة بن عقبة: ((جاءني علي بن المديني فسألني عن هذا الحديث، فحدثته به. فقال علي بن المديني: "قد استرحنا من خلاف أبي إسحاق")). اهـ فاتضح أنه اعتمد على ظاهر سند قبيصة في أنّ يونس سمع من أبي بردة، مع أن الرواة اختلفوا عن يونس في إثبات أبي إسحاق وفي إسقاطه! فآلَ حديثُ يونس إلى حديث أبيه، وهو ضعيف فيه.
وأما قوله عند الدارمي: ((حدثني أبو بردة)) فهو كقوله عند أحمد: ((ثنا العيزار بن حريث))، وهو مِمَّا عابه عليه شعبة أنه كان يصرّح بالتحديث مِمَّن لم يسمع منهم! فقد أخرج العقيلي في الضعفاء بسنده (2088، 4/ 457) عن سلم بن قتيبة قال: قدمتُ من الكوفة، فقال لي شعبة: "مَن لقيت؟ " قال: "لقيتُ فلاناً وفلاناً، ولقيت يونس بن أبي إسحاق". قال: "ما حدَّثك؟ " فأخبرتُه. فسكتَ ساعة، وقلتُ له: "قال: حدثنا بكر بن ماعز". قال: "فلَمْ يقل لك: حدثنا عبد الله بن مسعود؟! " اهـ قلتُ: وهذا قدح شديد، ولذا قال ابن حزم في المحلّى (9/ 49): ((يونس قد ضعَّفه شعبة بأقبح التضعيف، وضعّفه يحيى القطان وأحمد بن حنبل جداً، وقال فيه شعبة: أما قال لكم: "حدثنا ابن مسعود")). اهـ
@ تعقُّب العراقي للحاكم: أخرج الحاكم هذا الحديث من طريقين، أحدهما عن أحمد بن عمران والثاني عن أبي نعيم. فقال في الأول: ((صحيح الإسناد))، وقال في الثاني: ((صحيح على شرط الشيخين)). وقد تعقّبه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (الإحياء 3/ 133): ((قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وفيه نظر)). اهـ قلتُ: تصحيحُ مثل هذا السند فيه تساهل شديد، والأشدّ منه قوله ((على شرط الشيخين)) مع أن يونس ليس من رجال البخاري، ولم يحتجّ به مسلم بل أخرج له في المتابعات حديثاً.
@ السند إلى الضعف ما هو: من هنا كيف يُحكم بصحة السند مع تفرُّد يونس بن أبي إسحاق، وهو إلى الضعف أقرب، على تدليسٍ فيه؟ والقول بتحسين السند لا يسلم مِن النظر.
قصة الأعرابي .. هل لها أصل؟
لم يَروِ قصةَ الأعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا: يونس بن أبي إسحاق، ومحمد بن كثير القرشي، وكثير بن زيد، ومحمد بن أسعد الثعلبي.
(1) فأما يونس فأسندها إلى أبي موسى الأشعري (أبو يعلى، والحاكم وعنه ابن حبان)
¥