ضم بيتنا الكبير أربعة صبيان وثلاث بنات. توأمان جاءتا الدنيا قبل مجيئي أنا إليها، ما لبثا أن أغلقتا الباب على أسرارهما، ولم نلتقط منهما سوى الابتسامة مرسومة على الشفاه الراضخة لقانون العائلة الصريح: لا فضائح.
يرفض عقلي الصغير انطواءهما تحت هيمنة العرف السائد وقيده الذهبي .. "لمها" الثانية قد فارع، وقامة هيفاء، بهيجة، صغيرة كبيرة، سرعان ما صارت أماً لأربع بنات ولما تتخط التاسعة عشرة.
كانت نهمة للحياة تهبج الأفراح من وجه النسمة. تزورنا كل شهر إذا سمح أبو البنات. تقول العائلة متبرمة:
-ضحك القدر في وجه التوأم هدى عندما تزوجت نبيلاً ينتمي إلى أسرة باشوات عريقة تسلسلت عبر مراتب سلك الجيش. وبعد أشهر حملها زوجها إلى مدينة اسكندرون، لتعيش مع أهله في بيئة أرستقراطية تجيد اللغات الأجنبية وأصول الاتيكيت.
زياراتها إلى الشام محدودة مقننة وموزعة على المواسم والأعياد.
كانت هدى جميلة شقراء، مرهفة تحب الموسيقى ماهرة في حياكة الصوف والتطريز.
تردد أمي:
-أناملها شمع، ويداها ذهب.
ذات مساء خريفي. امتلأ البيت بصديقات أمي، وجاءت "مها" تجر خلفها بناتها الأربع. انزوى أبي بعيداً في غرفة الجلوس يقرأ (طه حسين) معجباً.
رن جرس الباب رنات متسارعة نزقة تحركت "مها" نحوه. أوقفتها والدتي بزجرة من عينيها ثم دفعتها إلى الغرفة حيث الوالد. مشت هي تستطلع أمر القارع المتعجل.
طال الحديث خلف الباب .. علا صراخ مبهم. عادت أمي إلينا صفراء مضطربة. همست في أذن أختي:
-هو .. وأضافت نكدة. صبري أفندي بسلامته.
فهمنا يومئذٍ لم جاءتنا. كانت حردانة.
لا تفصح أمي عادة عن مرادها بوضوح. ترمز وعلى الآخرين أن يفهموا ويستجيبوا.
هو يعني: "صهري" الذي أتى محارباً يبغي استرداد امرأته وبناته.
علقت أمي بحياء:
-قال يحبها .. والله لا يوفر كلبة في الشارع، ولا يتورع عن قطة.
وقفت "مها" قرب الباب حائرة. انهمرت دموعها على خديها. أطرق والدي محزوناً، كور حبات السبحة الصدفية في كفه وتعوذ من الشيطان الرجيم.
-يا بنتي. البيت بيتك. والبنات بناتك، شرفك. أعرف أنه قذر، ولكن ما العمل؟ اذهبي معه الآن وسنرى.
صدرت عن أخي هشام حركة غضب، ألقى كتاب الفرنسي جانباً، همّ، ولكنه أحجم.
لمحت دموع "مها" وأنا ألملم زهرات الياسمين البيضاء عن الطاولة.
لحقت بالمرأة المقهورة قبل أن تغادرنا إلى بيتها الذي لم تحبه أبداً.
شددتها من ثوبها المخملي الخمري أستبقيها. تلكأت لحظة، ثم مسحت على شعري المضفور كإكليل فوق رأسي وقبلتني. قبل أن تغلق الباب خلفها بصمت غرست نظرة مبهمة في عيني، ثم حملت ابنتها الرضيع وغادرت مع بناتها.
لم يودعها أحد، لم يسمح والدي بذلك، كلمته مطلقة.
لملمت أمي فناجين القهوة المبعثرة على الطاولات، تشاغلت بتنظيم البيت نبرت دون تمهيد وبصوت مبحوح:
-والله ما أحببته يوماً. نصيب. آخر حركاته، كلب ذئبي مرعب .. ينبح في أذن المصلين، وأين وضعه؟ على السطح المطل على الجامع يا خجلنا من الناس ..
كلب ابن كلب أنهت رأيها، ثم أطبقت شفتيها.
انطوى شهر تشرين الأول. وتبعه الثاني. هفهف برد كانون، عكر سكينتنا خبر مفاجئ سافرت أختي إلى أرض بكر مجهولة في شمال سوريا. ضب "صبري أفندي" الأثاث الأنيق الفاخر وباعه بالجملة كي يسدد ديونه بعد أن خسر نصف أمواله على موائد القمار في نادي الصفا.
في صدر أمي بئر عميقة لأسرار الجيران الأوادم.
يفصلنا عنهم من كتبية المطبخ جدار رقيق من خشب الجوز رصفت على رفوفه الطناجر النحاسية المتلألئة.
في تمام الثامنة، يخرج الرجال إلى أعمالهم.
تدق جارتنا الطويلة النحيلة كقصبة صيد السمك دقات منغمة على الجدار:
-صباح الخير أم هشام .. راح جارنا الله معه.
تتكتك المرأتان بقلب مفتوح، تكشفان همومهما المبثوثة في خبايا الأضلع عبر الفاصل الهزيل الذي يمنع سقوط العين عندما تتعرى الأفئدة.
مشكلة جارتنا أنها تلد بناتاً، ويسكنها هلع من شبح الطلاق. تتوهم بأن جذورها باتت على البلاط، ولن يشفع لها حسن سلوكها ولا سمعة أبيها كأستاذ محترم في الرياضيات.
¥