ينغل بيتنا بالأولاد، أمي ولود، والعائلة ولود تحمل أوسمة الخصب المبكر. البنت عربية، مساعدة أمي، حولاء جاءتنا من تل منين، تنظف، ترفو الجوارب، تكوي وأحياناً تساعد الغسالة أم حسن التي تأتينا مرة كل أسبوع من جبل الأربعين حاملة سطلاً فارغاً. كانت أمي في آخر النهار تملأ السطل مما طبخت، وتحمله أم حسن إلى أولادها اليتامى.
تردد باكية:
-شاب والله، يا أم هشام، مثل الوردة، أحسن طيان في المهاجرين ما مثله شغّيل. سقط عن السقالة صباح العيد وماردّ النفس. نصيب. تسأل أمي جزعة:
-وما له تعويض، معاش؟
-ما له!
كان بيتنا عامراً دوماً بأشهى الطعام، يأتينا سمك طازج من طبريا توزع أمي منه على الجيران الملاكة، وهم بدورهم يصبون علينا خيرات أراضيهم في الغوطة. تبدو والدتي مزهوة بكرمها، راضية عن عيشتها.
لم تخفف السهرات القليلة المختلطة من إدمان أبي على مقهى المهاجرين في آخر خط الترام. يسعى ماشياً مشية عسكرية يعب الهواء عبات مسموعة بزفير وشهيق منتظمين، وعندما يصل البيت يأخذ مكانه على الكرسي القش ذي المسندين. يرمي سبحته على الطاولة المعدنية المدورة، ويطلب شاياً، ثم يتأمل دمشق من إطلالته المشرفة منتشياً داعياً:
-الله يحفظك يا شام، ويخلصك من الأجنبي.
كنت معجبة بأبي .. وما دام في البيت كنت لا أكاد أفارقه. أنتظره عصراً قرب الباب أقبل يده، وأظل ممسكة بها. وحتى على سجادة الصلاة كنت أبربر معه بكلمات لا أفهم معناها تعلمتها لا من تلاوات أبي بل من دروس الراهبة الإيطالية في المدرسة. يضحك، ومن خلف ظهري يتضاحك إخوتي، وتقف أمي باسمة ..
تشبه الحارة في المهاجرين نادياً نسائياً. تنزين النساء جمعة الاستقبال أجمل زينة وتبدأن منافسة شيقة بينهن ومباهاة في الملبس والمأكل والضيافة والتسريحة .. يدور حديث حول الموضة، والسفور، ورائدات السفور اللواتي تجرأن وتحدّين فنزعن المنديل الأسود عن رؤوسهن. تعود الواحدة منهن مفعمة بالقصص والأشعار وغرائب الحكايا لتسلي العائلة.
يقايضني أخي سامي على قطع الحلوى فيحل لي مسألة الحساب. جاءني يوماً مستضعفاً:
-سلمى حبّابة أنت .. أريد معروفاً، أنا بحاجة إلى كتاب التاريخ الطبيعي.
أرامقه مستفهمة.
-هلا استعرته لي من صديقتك "زينة". تكبرني زينة، رفيقتي في المدرسة، بأعوام ثلاثة. هي جميلة بيضاء نظيفة الرائحة.
قلت: لمَ لا .. تحب أمها أمي وتسّر لها كوامن أشجانها وحتى دقائق حياتها الزوجية، ورغبتها المكبوتة بين أربع حيطان ضم ابنة حماها العانس فيما زوجها يقضي معظم وقته في الضيعة. مع من؟ لا تدري.
ألم تسألها مرة أن تقسم على المصحف الشريف بأن تحفظ سرّها إذ تتمنى الموت لتلك العانس الشمطاء؟ أو تجد وسيلة.
ارتديت ثوباً سماوياً مطرزاً بخيوط حريرية حول القبة المدورة، فصلته لي خياطة الحارة الماهرة " مسرة خانم".
تقول أم زينة عنها:
-من تضاهيها؟ ولا واحدة. فنانة، ترسم، وتفصل، وتجدل الخيوط ببعضها، وتصنع زنانير رائعة.
أجلستني زينة على الأريكة الطويلة المستورة بقماش مورد مكشكش. تأملت أظافرها المقصوصة، ثم ابتسمت بلطف، غابت لحظة وعادت بالكتاب. وضعته أمامي:
-تفضلي.
قلبته. صور حيوانات مألوفة وغير مألوفة من قارات بعيدة. حملتني عوالمه وألوانه إلى بلاد شاسعة إلى ما وراء حدود دمشق وبيروت التي لا أعرف غيرها.
عدت فرحة بما أحمل. سلمت سامي الكتاب، لمحت بريقاً لامعاً في عينيه، وسعادة آسرة غمرت وجهه البرئ المزغب وهويتفتح للحياة.
غيرت مجبرة مدرستي الأجنبية بتحريض من أعمامي خوفاً منهم على عقيدتهم من الإنشراخ. وما أسلموا أعماقهم في حقيقة الأمر إلاّ إلى الغيرة.
اعتبرت تلك النقلة من المدرسة الإيطالية بمثابة عقاب لي. هبطت عشر درجات ودخلت دوامة الأزورار في المدرسة الحكومية والخوف من المسطرة، والقرفصة على الأرض حتى تتيبس الأقدام. أضعت متعة الغناء الجماعي بمرافقة الراهبة على أنغام البيانو.
بعد لأي متعثر بدأت أتأقلم مع لداتٍ في مدرسة "خولة الكندية" بالمهاجرين. في هذه المدرسة توثقت عرى الصداقة بيني وبين زينة وليلى وناديا من بنات الحارة التي أضحت مرتع لقاءاتنا البريئة وحلم أيامنا.
أعدت كتاب التاريخ الطبيعي إلى صاحبته وأنا سعيدة.
¥