-أنت تحلم يا عادل. تحكمنا فرنسا بسيف مسلط على رقابنا، لا جيش ولا أسلحة. دفعة عادل من كتفه ممازحاً:
-والله كبرت يا سامي. هذا الرأس .. يملؤه شيء آخر غير كرة القدم.
تحرك نحو مكتبه.
من زاويتي رأيته يفرد خارطة سوريا، ويلون بقعاً بالأحمر والأزرق. رمى القلم من يده ونقر على الخشب، وتبسم رضى عن نفسه. لف رزمة ضخمة من أوراق في صحيفة أخرجها من صندوقه.
اقترب سامي وربت على كتفي:
-ليتني مثلك، أغبطك على جلدك واجتهادك، ألا تتعبين؟
أحسست أنه بحاجة إلى إنسان يحكي معه.
-سلمى، اسمعي، هل أتطوع مع الانكليز لأصبح شخصية عسكرية مرموقة؟ هززت رأسي مفاجأة:
-لا أخي لا أرجوك، كل شيء ما عدا العسكر. أخاف منهم.
-سلمى، معي سر أخفيه في قلبي عن الجميع، يكاد يفجر رأسي. احلفي بأنك لن تبوحي لأحد به، ورفع يدي بالقسم.
-البارحة، بعد الانصراف لحقني عيّاد الليبي الذي نزح من طرابلس الغرب هرباً من إيطاليا. فتحنا حديثاً، شكوت له حالنا التي تنزلق نحو الإفلاس. عياد، لا بد أنك رأيته عندما طلب أطلس الجغرافية مني، الشاب الأسمر الغامق النحيل مثل مسلول، يعرج من قدمه اليسرى .. تذكرته الآن؟
-تذكرت
-حكى لي الكثير عن جيش الحلفاء. قال:
تزيّن قيادة الانكليز سواعد الجنود بالأشرطة الذهبية إن أبدى أحدهم شجاعة وإخلاصاً لهم، للحلفاء ويرفع إلى مرتبة أعلى، ذكر لي أسماء نصف شباب المدرسة الذين تطوعوا على يديه.
-وأنت؟
-سأتطوع كجندي محترف.
-ولكنك صغير.
قال هذا شغله. يجب أن أترك الموضوع له.
يبتسم سامي. تلون الأحلام رأسه، تهب معالم الرجولة على وجهه وترسم خطين من الزغب الأشقر فوق شفتيه وعلى صفحة خده. سألته متلهفة سعيدة بالسر.
-يعني خلص، قررت.
-لا يمكن التراجع. يجب أن أصبح شخصية وأحطم أنف مسيو شارل، بودي أن أخلص أمي من همومها. لم أعد أحتمل بكاءها. خلّفت أفكارها قبحاً على وجهها الجميل. أنا خائف ولا يمكنني التراجع.
فيما كان "عادل" يوزع منشوراته المعادية للانتداب الفرنسي في الأحياء القديمة والمدارس ترك سامي البيت تحت جنح العتمة هائماً متستراً وعلى كتفه جعبة إلى محطة الحجاز حيث يتجمع الطابور أمام ميجر انكليزي للالتحاق بجيش الحلفاء.
طمرت رأسي تحت اللحاف، ورحت أنشج. أترقب صباحاً صاخباً .. ما إن جهجه الضوء حتى اعترفت بسرّ سامي، وكان الأوان فات. عاف أبي المقهى من بعد. انطوى على خيبةٍ بابن غرٍ يلتحق بصفوف الأعداء.
قاطع اجتماعات الرجال التي تدعو إلى الاضراب وإغلاق الدكاكين برأي منه.
هل سقطت هيبته عن أولاده حتى وقع في مطب المشاكل خارج الخط الفاصل بين إرادته والمتغيرات القسرية. كيف سمح للهواء بأن يتسرب عنيفاً إلى زعامته؟ يتساءل دوماً في خلوته.
تغير مالكو البيت في رأس الحارة. أجرته الأوقاف لصالح ورثة يتامى. زارتنا الجارة الجديدة. امرأة جهمة. وجه مدور طفح، قامة مديدة مرصوصة على الشحم. تبعتها فتاة فارعة القوام، جعداء الشعر منفوشة الغرة. شدت على يدي بقوة:
-مرحباً.
خرج من حلقها صوت رجالي ثخين مبحوح، توددتْ إليّ مبتسمة. ثم استدارت نحو أمي:
-بيتكم حلو خالة. ربما في الصيف أحلى. ديار وياسمين وعنب.
ردت أمي المجاملة منبسطة الأسارير .. بادرتها:
-أنت أحلى.
تلوت البنت بدلع .. وهمست في أذني:
-أتذهبين معنا إلى السينما. الساعة السادسة ماتينه، فيلم عن غزو نجمة المريخ.
شعرت أنها هدمت قسماً من السياج حولي، وفتحت لي طاقة نحو الهواء الطلق.
-أذهب، أجبت متعجلة.
-وأمك؟ غمزت بعينها.
-لا أدري، مشغولة مع الضيوف، متى؟
-بعد نصف ساعة. اسبقيني إلى رأس الحارة.
-تصير الدنيا عتمة.
-لا .. لا.
يثير حديث ناديا مشاعري، ويذكي خيالي، الأبطال، المركبة الفضائية، الممثلة، الثياب العجيبة، الطيران، سألتها: ما اسم السينما؟
-ربما الأمبير، أو اللونابارك في شارع بغداد قد تكون روكسي.
تسللت خلفها ممغنطة. وجدتها تنتظرني، وإلى جانبها شاب يماثلها طولاً وشبهاً.
-أخي زهير، أشارت إليه.
ما إن اطفئت الأنوار في الصالة الضخمة حتى غرفت بخوف يكاد يفجر شراييني. طغى الرعب على كل متعة ممكنة، وصورة مدهشة. فماهمني لو هرب البطلان عليهما اللعنة في المركبة ذات الأزرار العجيبة ليغزوا المريخ. تقامزت النجوم أمام بصري مثل كرات لاهبة نارية انصبت على وجهي وكهربتني استجمعت شجاعتي ولكزتها.
¥