-لا تؤاخذيني أختي "أم هشام" فضلنا شهر العسل في أوربا على حفل العرس. فرصة وحيدة أمام البنت لترى العالم قبل أن تعلق بالأولاد .. بيت سيارة، طباخة، لا يجوز للمرأة أن تفني عمرها في المطبخ.
-ورضي العريس؟ سألت أمي منكسرة الخاطر، تذكرت سامي الذي رسب في صفه.
-طبعاً .. قاتل حاله .. قبل بكل شروطنا ..
شروط للزواج، شروط للحب، وتنازلات، وقوانين تتحكم بمقدرات المرء، ترى ما كانت ردة فعل العشيرة فيما لو تزوجت رفيقي ميشيل في المدرسة الإيطالية؟ ميشيل جليسي في المقعد، معه تعرفت الحرف الأول حتى ترفعنا إلى الصف الرابع. كان لطيفاً، حلواً، يساعدني في حمل حقيبتيّ الملأى بالكتب المصورة. وعندما يوصلني أبي بالعربة السوداء التي يجرها حصانان إلى باب المدرسة أجده واقفاً. يندفع نحوي فرحاً وبيده قطعة شوكولا يقضم نصفها وأقضم أنا نصفها الآخر ونضحك.
تفصلنا الراهبة قبل الغداء إلى فريقين .. بلا وعي مني ألتزم صف ميشيل. ويلتزم ميشيل صفي. نبعان صافيان من العسل لم تشوهمهما المواضعات الاجتماعية. أين أراضيه اليوم يا ترى؟
ها أنذي أصغر تلميذة في الصف الخامس، وفي مدرسة حكومية ابتدائية عافت نفسي القراءة والطعام. انقلب الوضع تماماً. أرجحني في شبكته، فألعاب البنات حولي مثقلة بالرتابة وإيحاءات الآخرين .. ذروة التفجر المكبوت عندهن صورة ممثلة أو ممثل مقصوصة من مجلة الاثنين المصرية تسلل شيء ما إلى حياتي فجأة. قطعة سكر ذابت في حلقي عندما شد صبي في مثل عمري على يدي جاء مع أمه، نظر في عيني، خرق حجاباً، قبلني من خدي، لا أدري لم كانت متلصصة هرولت خارجة، سمعت صوته خلفي: "اورفوار".
بحثت عن غطاء أسبله على وجهي، كفنت جسدي بشرشف أبيض. طرت مع سابع حلم. تحولت إلى حمامة بيضاء كسيرة الجناح، مالت بمنقارها نحو النوافذ المغلقة تنادي الأخريات، ثم سقطت على الأرض لتجد إرادتها مسيجة بالجدران، ومشدودة بخيط مربوط في قدمها.
تقوم قيامة البيت يوم الاستقبال صباح كل اثنين من كل شهر على جري العادة. تكوى الستائر المكرنشة الدانتيل. تفرك القدد النحاسية بمادة تثير الغثيان، وتفرش الملاءات البيضاء المطرزة على الطاولات. عرس جميل يتجدد كل شهر.
غير أن هذا العرس المتجدد أصيب بنكسة بالغة، فقد توارى الفرح عن البيت، واسلمه إلى كارثة هزت أركانه، وزلزلت أمنه عندما نشب خلاف بين أبي موظف الجمرك الكبير، وبين مديره القومندان شارل الذي حمل في ثيابه العسكرية عقلية فجة، وتعليمات صارمة من حكومة الانتداب الفرنسي تحتم على موظفي الجمرك ارتداء الزي العسكري الفرنسي، والتكلم باللغة الفرنسية والتعامل فيها حصراً، وإلا فالطرد من الوظيفة.
انطوت الأفئدة على فكرة الخروج من المأزق الصعب، فتفرق الأهل جماعات. وأصبحت في البيت وحيدة، غريبة كنبتة خضراء أصابها الجفاف، لا يدري أحد بي، ولا يلتفت إلي عيني الرامدتين ليمسح عنهما العمش. أسندت رأسي إلى مخدتي علني أفهم المشكلة، ولم انفجرت الدنيا في وجهنا فجأة ولكن عبثاً حاولت.
أطبقت أمي فمها على هم لم أدرك مداه في سني الصغيرة، يداها في حضنها مستسلمة، تتوجه بإشارات بكماء إلى "عربية" التي أبت أن تغادرنا. ترف عيناها السوداوان الواسعتان بأسى وحسرة كلما باع أبي بيتاً أو دكاناً.
تقاربت زيارات أختي هدى، أضحى حديثها همساً مع والدتي.
-شباب، أفواه مفتوحة، الجوع لا يرحم .. كلمات غريبة ترددت. أعقبها تقشف بادٍ في ألوان الطعام، ولون الخبز والسكر.
تعرض الرجال كما تعرضت البلاد في أواخر عام 1943 لدعايات شتى غزت رؤوس الشباب بأحلام البطولة. عملاء بريطانيا المأجورون جعلوا يجوبون المدارس ويدعون ويزينون الانخراط في صفوف الجيش الانكليزي لمحاربة عنجهية ونازية الألمان التي تضعنا في أسفل السلم البشري تخلفاً، وانحطاطاً.
تشد الدعاية تارة ازر الألمان، وتارة ازر الحلفاء، والشعب دائخ بين رحى الطاحون. يدور همس بين سامي وعادل:
-كيف لا نحارب فرنسا التي طردت أبي من عمله، وهي حليفة انكلترا، كل يوم اضراب وقتلى وجرحى؟
يجيب عادل:
-تموج المدرسة بالدعاية وتملأ الآذان ويسكت عنها المدير.
-سمعت أن الانكليز فتحوا باب التطوع، ما رأيك؟
-أنا مؤمن بأن الاستقلال قريب، أنا ما زلت أفكر. الاستقلال قريب.
¥