تحسسنا إجازاتنا المزورة في ساحة "فكتوريا" خوف مداهمة الشرطة ونحن في الزي العسكري. نفحت فينا حرارة الشجاعة، وأنقذتنا من رعب مميت. انحل عقد الرفقة في ساحة المرجة عند موقف ترام المهاجرين. تلفّت حولي. آه، يا دمشق، ما زلت حلوة نظيفة. رميت بجسدي على الحافلة مكذباً نجاتي، ألصقت أنفي وعيني بزجاج النافذة أتملى مشهد بردى يتراقص ماؤه في ضوء الليل. وبدأت أعب، أعب من هواء الشام، من تعبي، وخوفي، وشوقي. يا لحظي الذي تمطى كعملاق. فيما كانت تتخطفني اللهفة نشوان أحسست بلكزة في كوعي. استدرت مرتعداً، رأيت وجهاً مألوفاً. عرفت وجه عياد الليبي الذي هربني من بيتي وبلدي لألتحق بالجيش الانكليزي، عانقني بحرارة سألني عن أحوالي، ثم نظر إلى ساعته ..
-الساعة العاشرة ليلاً .. هل أنت في إجازة؟
أجبت بريئاً:
-معي إجازة، اشتقت إلى أهلي وبلدي، ولكني لن أعود يا عياد .. لمحت على وجهه ابتسامة صفراء عريضة لم أعن بملاحقة معناها فقد صرت في الشام، ولن يتمكن لا هو ولا أي عميل آخر أن ينتزعني منها. فجأة قفز عياد من الترام كجني، وانشقت الأرض عنه، لم أبال به .. إلى ألف جهنم .. وعندما وصلت البيت كان السكون يخيم عليه. وقفت أمام النافذة متردداً، حاولت اختراق الظلمة، من الدرفات الخشبية، عجزت، نقرت الباب بيدي سمعت خطوات سلمى وصوت باب يفتح، هدأ قلبي جاءني صوت سلمى:
همست:
-أنا سامي افتحي لا تخافي، رأيت سلمى تعاني نعاساً أثقل جفنيها. توقفت لحظة قبل أن ترتمي وتعانقني، خلصت قدمي من بسطاري العسكري .. ومشيت على رؤوس أصابعي غير مصدق أنني صرت في بيت أهلي. لكن في أعماقي خوف هصر أعصابي وألهب حساسيتي، فأنا أتوقع شراً وخوفاً من غول ما انفك فاغراً فاهاً مرعباً.
توقف "سامي" عن الكلام وأطرق .. جالت عيوننا تتصفح وجوه الآخرين. لتتوقف عند وجهه المتعب. كان قد أخذ يبكي وينشج كطفل ..
انخطفت أمي إلى المطبخ، وعادت بكأس ماء. تناولها بيد مرتجفة، ورشف منها، رفع بصره تجاه أبينا الذي لفت بصره إلى ناحية أخرى. كان على درجة عالية من التأثير. لكنه ضبط أعصابه، ورفع سبابته:
-لنأكل لقمة، أحس بالجوع. لا نعرف ماذا يخبئ الغد.
شهقت أمي دامعة، رصت يدها على فمها، وقفزت مضطربة إلى الحمام تتقيأ الحزن صاح أخي هشام من قلب الدنيا:
-العسكرية، ظننتها لعبة. لا تخرج من البيت، لن يتركك الكلب.
كنا فعلاً على موعد مع الغول، قرع الباب ولما يُنه المؤذن قول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح". شعرت بيد قاسية تقبض على صدري وتأخذ بخناقي. سرقت نظرة من ثقب المفتاح، لم أتبين سوى لباس عسكري. ارتعدت مفاصلي، عملاقان من البوليس الإنكليزي. ومعهما رفيق أخي في المدرسة "عياد الليبي" اثنان آخران. عرفنا فيما بعد أن صاحب الطربوش المائل الذي يمصمص شفتيه وأسنانه، ويعلك الكلام هو المختار. والثاني شرطي من مخفر المهاجرين، مصطبة.
هبّ سامي حافياً خلفي. حاولت منعه، فدفعني عنه وفتح الباب، برقت عينا الأشقر بنصرٍ مؤزر، تكلم بعربية محطمة:
-أنت سامي الشريف، يا الله، تعال معنا.
نحى جسده العريض الذي سد الباب، فتسللت منه خيوط الفجر الأولى ونسمة رقيقة داعبت دموعي.
أدخل سامي قدميه المتورمتين في البسطار الكبير وسلم نفسه بالبيجاما، غنمة طائعة مدت عنقها للذبح قبل أن يفيق أبي.
صرخت وتعلقت بسترته.
-لا تروح سامي، سامي لا تروح. انتظر بابا. جاء بابا.
استدار نحوي:
-لا أستطيع، يجب أن أذهب معهم حتى لا أعتبر جاسوساً.
دفعه العسكري من نقرته إلى سيارة جيب، وقفت خارج الحارة، أبكي ملء عيني .. هب البيت بعد فوات الأوان ..
لكن سامي كان مضى.
إلى أين مضى؟ هاجمتني أيدٍ سوداء وبيضاء. تسمرت في مكاني ارتعش خوفاً وترقباً. انقلب الفرح إلى عزاء وبتنا على جمر الانتظار. نلطش على واسطة خير أشهراً عدة. جمع أبي معلومات عن مفتاح يوصله إلى سجن القابون. وبعد أربعة أيام ظفر بجارنا متعهد الطرق شفيق العشا، وفواز الحلاق الذي يعمل لحساب الإنكليز، ويقدم خدمات مشبوهة.
عاد متعباً من مشواره، طلب كأس لبن، وروى لنا بصوت متهدج قصة لقائه مع سامي في غرفة مدير السجن.
-"لم أدر كيف تصرفت، وتصرف ساعتئذ، هجم علي واحتضنني وبكى أم هجمت عليه؟ أم تسمّر في مكانه؟ كانت لحظة غائمة تحجب الوضوح ربما قال:
¥