-هبط قلبي يا بابا، خفت من النداء، وكأنني أساق إلى حكم الإعدام"
أفزعتنا أمي بنحيبها، رششنا وجهها بماء الزهر. سقطت مريضة بين الموت والحياة. وعم الأسى المنزل.
مرت الأيام بطيئة تئن في أفئدتنا كأزيز ناعورة مهترئة. لا نقوى على الضحك، ولا الرضوخ لواقع أقوى من إرادتنا.
قبل المغرب من أيام حزيران القائظة قرع الباب عسكري أسود الوجه لماع. ناولني ورقة مطوية عدة طيات أخرجها من محرمة في جيبه. وصلتنا أول رسالة مهرّبة من سامي.
أهلي أحبابي.
اعترف بضياعي ويأسي. أنا مشرد، ربما أموت غداً قبل أن أراكم.
أحبابي. أتذكركم وأبكي، رفضت كل ما قدم لي من طعام، فاصوليا حب ورز. وحتى كار الشاي الأسود المغلي. أبكي ندماً حتى الصباح، ولا أخجل من ضعفي. استولت علي فكرة التخاذل فأسندت رأسي إلى الجدار، سمعت خربشة فأرة تختبئ في كيس طحين، دققت على الحائط عدة مرات ابحث عن إنسي. خيل إليّ أن جواباً أتاني من خلف الحجارة السميكة الصلبة السوداء، والأرض الباردة المقفرة إلا من بطانية. أعدت المحاولة اليائسة. توضح الجواب. جاءتني دقات رتيبة وسؤال عن اسمي باللغة العربية، ثم ظهر وجه الحارس الأسود الذي حمل ورقتي وسألني:
-مسلمان؟
-مسلمان.
فهمت كما لو أنني أفكك طلاسم الجن، أن فرقتي رحلت إلى ليبيا لقتال الألمان. رجوته أن يوصل أمر سجني إلى أهلي، عاد بعد ساعة، ودفع بورقة وقلم من أسفل الباب.
بت ليلتي شقياً، هل كتب لي عمر جديد؟ أحقاً هربت من مصر إلى دمشق لأنجو من الحرب.
لعلكم حسبتم مجيئي حلماً من أحلام اليقظة. بت أنا أيضاً أسير أوهامي. تتلاعب بي يمنة ويسرة. قادرة على ابكائي، وعاجزة عن تخفيف الرعشة، رعشة الرعب التي تلاعبت بي كورقة صفراء.
أهلي
علمت أن الواشي "عياد" كلب الانكليز، وأنه عميل مزمن للمخابرات البريطانية في دمشق. عمله التقاط الأغرار أمثالي.
بعد أن غادرني أبي، رمينا في شاحنة عسكرية كالغنم. رؤوسنا متلاصقة، وظهورنا إلى الشارع. في محطة الحجاز رأيت القطار الذي مهد لي سبيل اللقاء بكم.
رافقني "عياد" إلى بيروت عن طريق "رياق" ويده على المسدس شعرت برغبة عارمة في ذبحه.
تأبط ذراعي عسكريان أجنبيان، وساقاني إلى السجن دون أن يتمكن ابن خالتي عبد الرحمن المقيم في بيروت من تهريبي بطلبٍ منكم. يرن صوته في أذني.
-سامي، أنا عبد الرحمن. ابن خالتك.
أحسست بأهميتي. يداي مطوقتان بقيد حديدي كأعتى المجرمين. رميت منفرداً في سجن الحرس. عقد الخوف لساني تساءلت ببلاهة: كيف تسربت من أيدي أهلي وأمام أعينهم في بيروت.
تعرفت في السجن على قافلة الموت. كانت مؤلفة من ثلاثة عشر افريقياً أسود. داخلني الخوف. انكمشت على بعضي بادئ بدء. كانوا مثل الليل. ظلام بظلام، وعتمة في عتمة. دفعت قدمي بالباب وأسندت ظهري إلى الحائط. ونمت كالقتيل.
تنبهت على بربرة غريبة من حارس سنغالي يحمل الفطور جبنة زيتون ومرملاد. قال بلكنة عربية مشوهة:
-مسلمان، الله محمد، ووضع يده على صدره احتراماً وردد:
-مسلمان:
-مسلمان.
قفزت الفرحة من عيني. ها هو بني آدم آخر قريب يتحرك أمامي بلحمه ودمه. سحبت قدمي من الكوة القصيرة المقضبة بحديد أسود.
لوحت بيدي وهتفت: -مسلمان.
طق مفتاح ثقيل بالقفل. أخرجني حارس إلى المهجع المقابل. خلصت بدني من الخوف. انتابني شعور مخدر وأنا أسير نحو رفاقٍ سجناء جدد، لعلهم هاربون من عذاب ما، من وطن محتل مثل وطني. بدأت يداي تلوحان، تترجمان بلغة الخرس. عجبت من رقتهم وليونتهم، حكيت قصتي من خلف القضبان، وحكوا قصتهم من خلف القضبان. كانت ألوانهم الأبنوسية السوداء اللماعة بداية الدرب الوعر الذي قادهم إلى الجلد والذل والسجن كنفايات أفرزها الإنسان الأبيض تحت شمسٍ محرقة.
الأسود في خدمة الأبيض، يدفع الأسود ضريبة لونه، لعله أخيراً يدرك أو لا يدرك بأن الحياة له إلا مع مجموعته. يعيش معهم، ويفنى معهم.
كانت قافلة الموت أمامي أشبه بأيدٍ عارية مغلولة مبتهلة.
فهمت بصعوبة أن مأساتهم الأزلية تكمن في غنى أرضهم، وفقرهم ولونهم.
وفي ليلة قائظة حيث امتزج الدم بالغضب، قررت الكتيبة السوداء قتل كابتن انكليزي لأنه جلد رفيقهم بالسوط حتى الموت. وعندما اكتشف الأمر، انتقى الانكليز واحداً من كل كتيبة متطوعة لينفذ حكم الإعدام به رمياً بالرصاص انتقاماً وعبرة.
¥