- يا حسرة عليك يا أم سعيد، واللّه بنت أكابر، من فم ساكت. جرت أم مصطفى جسدها البدين الملفوف بعباءة سوداء نحو أمي بدت كغراب أسود جاحظ العينين.
- يا ستي، الولد سعيد عاق، علق فلاحة وتركها حبلى مرمية في بيت أهلها، الولد لا شغل ولا عمل، على كلمة هات، وذبح خرفان، افتضح أمره، طار صواب الأب وفقد عقله.
عقبت أمي سريعاً:
- فشنق نفسه، حرام عليك يا أم مصطفى من أين جئت بهذه الحكايا، المجالس بأماناتها.
ارتمت أم سعيد على الديوان المخملي معقودة اللسان هادئة تحت وطأة المفاجأة.
صوت الرجال:
- الفرح مثل العزاء يحتاج إلى قلوب حنونة.
- ترحيل الميت إكرامه. نبر أبو فايز
فرش موت أبي سعيد عتمة على القلوب. فمن عرس إلى موت كبرت فيه النميمة. مات. وظل السر سراً مدفوناً في صدر القتيل.
تستعيد الحارة صحتها. أشرف العيد على الأبواب وحجزت صاجات المعمول من الأفران. ارتخت الحياة مجدداً بعد نقلتين متناقضتين.
عاد أبي وإخوتي من صلاة العيد. دفع أجير الخباز معجن الخبز النحاسي إلى قلب الدهليز الطويل. فاحت رائحته الزكية ممزوجة بالمحلب والمسكة.
بح صوت غريب خشن.
- يا اللّه
- تفضل. تفضل
ركضت أمي متلهفة تحمل كأس ماء الزهر، قبلت يد الضيف الكبير الذي تضمخ بالبخور والمسك والعنبر، تراجفت نحو الباب احتراماً وصاحت بصوت دافئ:
يا أولاد، زارنا النبي ... الشيخ أحمد في دارنا. غيروا ملابسكم البسوا ثياب العيد. وتعالوا.
عبقت رائحة البخور في الصالة الكبيرة. انبعثت فاغمة من ملابس الشيخ أحمد. تسمرت حائرة أمام هيمنة شيخ جليل على هيبة أبي اقتربت منه. مدّ لي يده مشجعاً. تحولت عنها إلى رأسه رفعت عنه الطاقية البيضاء شغل الإبرة، ووضعتها على رأسي. درت متباهية. شدني هشام من جديلتي وصاح بي:
- هات الطاقية. استح أمام الشيخ أحمد، ما عاد فيك حياء. لن تكبري. روحي حضري الطعام مع الوالدة. رميت الطاقية على الأرض وهربت.
سكنت خاطري جاذبية الأراجيح التي تنصب في ساحة الحارة.
وهبت رائحة السينما رائعة رطبة فتحت أبوابها أمامي.
- مدت ليلى رأسها. شعرها مجعد مكوي تدلت من رقبتها سلسلة ذهبية تعلقتها سمكة
- سمكة؟ أمسكتها مهتاجة بكلتا يدي. لعبطت بين أصابعي.
وقف هشام يتأمل ليلى. جسد عبل مرصوص بنضارة الصبا. تلوت بدلال ورمقته بنظرة أنثوية خارقة لكل براءة. نظرة صريحة مغناج.
قالت: سنذهب إلى الأرجوحة. ثم إلى السينما فيلم حلو كتير ((ليلى بنت الفقراء)) بالروكسي.
- وحدكما؟ سأل هشام:
رد عادل من الداخل:
- أنا .... معهم موجود.
- نحن صغار، أجابت بصيغة الجمع.
قهقهة عادل واقترب من الباب. سرقت عيناه زري الورد في صدر ليلى. نبر ممازحاً على غير المألوف.
- كبرت واللّه يا ليلى، البارحة كنت صغيرة. وأحملك على كتفي.
لحقت أمي بنا:
- يا بنت، لا أريد مشاكل. الأرجوحة قربنا، لا تذهبا إلى الجسر الأبيض.
- طيب، طيب. طرنا، قفزنا، لهونا، أصبحنا فراشتين بيضاوين. تعبنا. داهمتني أحلام اليقظة في طريقنا إلى السينما. رقة حديث الممثل. همساته الناعمة. أحسست برعشة لذيذة وددت لو طالت.
عينا صبي مراهق رافقا زهوي. أتعثر به يومياً في طريقي إلى المدرسة. ها هو قربي يبتسم، يدير ظهره ويمشي على الرصيف المقابل. يرفع يده مسلما
لم يجرؤ على الكلام معي. كان قصيراً لا بل كان معتدلاً. شعره خرنوبي، وعينه -ربما- زرقاوان، خضراوان أرى ألقهما من بعيد. وأنا بدوري ما كنت أقوى على رد سلامه، وأنا المفعمة بخوف ضبابي من الجنس الآخر يلاحقني كظلي حتى أصبح طيفي الحقيقي.
- كبرت يا سلمى، أضاف عمي العائد من قرية السنابل على حدود الجولان يهيئ صفقة مع تجار الميدان لبيع القمح. يحمل في تقاطيعه فحولة الرجل الجبلي الهارب من سهوب باردة. يخرش صوته الأجش مسمعي.
كان عجيباً في شكله. غريب السمات، لا هو بالعربي، ولا بالأجنبي. يحمل فوق عينيه المكحولتين حاجبين أسودين كثيفين يميزان شكله عن بقية إخوته الشقر.
يداه كبيرتان سرعان ما تتحولان إلى أنامل سحرية تحكي حباً، لهفة، إذا أمسك العود.
كان العود هدية أبي لأمي عندما تزوجا، جاءها وقتذاك بمعلم تركي الأصل اسمه ((شوقي بك)) أكبر عازف كمان في دمشق. وعندما درجت أصابعها على أوتاره، وحفظت أنغام الحجاز كار، والنهوند ورقصة ((ستي))، كر الأولاد من بطنها واحداً إثر واحد، حتى قضوا على موهبتها.
¥