تردد في صفائها:
- ينعصر قلبي كلما سمعت رنة العود فأبكي.
ربما رضعت هذه الحساسية منذ كنت نطفة في رحمها. أحببت الموسيقى هاجسي الغرامافون الأسود. مسحورة أمامه. كيف يخرج الصوت من جوفه نقياً رائعاً. حفظت معظم الأسطوانات. ((كلنا يحب القمر، أراك عصي الدمع، يا جارة الوادي، أحببت شنشنة، جفنه علم الغزل)) اللحن راقص والكلمات جميلة. كم اسطوانة شطبت وجهها بقلة درايتي؛ من بعد حرمت الاقتراب من الغرامافون.
في يوم كنت مع الغرامافون رن جرس الباب خبأت الأسطوانات، وأقفلت الحاكي. أطلت ((باهية خانم)):
- أمك موجودة يا سلمى.
- لا. عند طبيب الأسنان. تفضلي
رفعت الغطاء الأسود عن وجهها لتجفف العرق. بان طرف خدها. جلد أبيض معجون بالأحمر. مجعد مثنى شتر الفم نحو الأذن حتى نبقت أسنانها. تراجعت.
- يا ربي.
- خفت مني يا سلمى. ردَّت الغطاء على الجانب المشوه ببساطة.
كيف لماذا؟ وقفت مبهوتة أتأمل ملامحها.
- رمى شاب متعصب ماء الفضة على وجهي. حرقني، رآني سافرة عن وجهي.
بدا النصف السليم آية بالجمال جعلني مشدوهة.
تلبست مظهر صاحبة البيت، الترحاب ذاته، الابتسامة العريضة ذاتها. راقبتني المرأة الضيفة وابتسمت.
- صرت صبية يا سلمى، إيه الأيام. العم يسري كأني أرى أمك تتحرك أمامي. مجدو كبر أيضاً. بعد سنة يقدم البكالورية الأولى قسم الفلسفة. وبعدئذٍ يدخل كلية الحقوق ليصبح محامياً.
نقزت في مكاني، محامي، أنا أكره كل محام بعد صبري أفندي زوج أختي لأنه يقبض على أسرار النسوة ويدفع بهن إلى أحضانه.
- مجدو يا سلمى حلو. ليس طائشاً مثل أخيه فائز. لطيف، أخلاقه عالية.
فهمت التلميح والترميز، قرفصت وانتشلت اسطوانة من الخزانة ندهت، يا حظي، كركت ((أم فائز)) ومجت من سيكارة الخانم ذات الفم الأحمر. صدح صوت عبد الوهاب ((جفنه علم الغزل))
غلى الدم في عروقي. تدفق دفء حار إلى أوردتي، فاندفعت أتلوى على النغم الراقص. تلاحقني صفقة باهية خانم المشجعة
- لك يا حبيبتي، هات بوسة
انتهت الأغنية. سربلني الخجل ندمت، لم رقصت أمامها؟ لا .. أنا رقصت للأغنية لحلم لم أعرفه، لآمال تركزت حول كلمة عابرة عن الرجل. لملمت أشلائي المبعثرة بين الأرض والغرامافون، وركنت جسدي في كرسي أصغي إلى كلمات الإطراء.
ذاع خبر ليونة جسدي، ورقتي بين النسوة في الاستقبال، سرعان ما نقلنه إلى الأبناء، فاندلق الخطاب علي، بدأت لعبة فصارت حقيقة، تحتم علي أن أخضع لسماجة بعضهن وأناقة ألفاظهن، راجيات كي أقف أمامهن ولو مرة واحدة. دفعت الثمن فادحاً ضريبة فظيعة تتنافى مع كبريائي. مكثت في البيت، ورفضت الظهور أمام أي كائن كان.
تدللني أمي بثياب جديدة. جاءت بالخياطة إلى البيت واشترت أقمشة جميلة.
- ست مادلين، قطبة عند الخصر، وأخرى عند الكتف. افتحي القبة قليلاً. لابأس. الكم فوق الكوع. لا. لا يرضى أبوها.
تنكب ست مادلين على ماكينة الخياطة دون أن ترفع رأسها إلا عندما تفصل وتقيس. أثناءها ترشف القهوة. حتى إذا اندفع الغداء بأريج الأطعمة الزكية ((غسلت يديها متأنقة)) وجلست تمضغ الطعام بصمت. لعلها ملّت هذه المهنة القاسية، لعلها شعرت بوطأة العمل الذي يكسر ظهرها يومياً وهي تنتقل من بيت إلى بيت حاملة ((الكاتلوجات)) في محفظة يدها السوداء الكبيرة. تنهال عليها كلمات الإطراء عندما يصبح الثوب جاهزاً. فستان وسترة وتنورة في يوم واحد. تلف المئة ليرة، وتضعها في عبها. تسكن عينيها نظرة امتنان.
تغادرنا قبل المغرب لتلحق فتطبخ لأولادها.
أكبر بسرعة. تدلك أمي خدي العاجيين بقليل من الحمرة الجافة.
- سلمى عندنا ضيوف أسرعي. ارتدي ثوبك البنفسجي. فهمت. هصرت خصري بالزنار الأسود الجلدي اللماع. برز نهداي مذعورين شددت قامتي، ودخلت بصينية القهوة. جلست قريبة من الباب أراقب عيني المرأة الفاحصتين، وأتجاهل غمزة أمي المتكررة تدعوني كي أخرج. لذت لي ملاحظة الضيفة بدت دقيقة القد. قدماها صغيرتان رقيقتان محشورتان بحذاء ذي كعب عالٍ. بانت أشد نحولاً أشبه بمراهقة عندما خلعت معطفها البني. تدلى من عنقها عقد لؤلؤي ثمين وسلسلة عريضة بطرفها ليرة ذهبية. يوحي مظهرها بالبحبوحة.
ظلت عيناها معلقتين بوجهي وهي تشكو كساد السوق وعدم إقبال الناس على الشراء. ردت أمي:
¥