فما كان منه إلا أن عرض رغبته على زوجته أمِّ عبدالله فذكرت له أن الاتفاق بينهُما في مكَّة على أن يمكثُوا فترة الصَّيف فحسب.
فذكر لها المميزات التي وجدها في المنطقة وأهلها، وأنه يُريد أن ينشر علمه ويُبلِّغ هذه الأمانة التي حملها.
فقالت: أمَّا أنا فلا أرغب البقاء فيها، وأصرَّت على العودة إلى مكَّة المُكرَّمة، وأصرَّ الشَّيخ على البقاء. فاختارت الفراق على البقاء معه، فكان لها ذلك.
هكذا ضحَّى الشَّيخ بحياته الخاصَّة، واستقراره الأُسري؛ مُقابل أن ينشُر ما تعلَّمه من علم لنفع النَّاس في هذه البلاد النَّائية.
ولعمري إنَّ هذا غاية البذل!! .. فمن يا تُرى يصنعُ مثل هذا؟!. مع علمه بما سيترتَّبُ على ذلك القرار من تبعاتٍ ينوء بحملها*!!.
وبقي أولاده وبناته بصُحبته في أبها، وكانوا إذ ذاك صغارًا، بعضُهم في سنِّ الرَّضاع.
(الحلقة الثالثة)
وكان الشَّيخ له نشاطٌ وحيويَّة وقوَّة، استطاع أن يجمع بين التَّدريس في أكثر ساعات اللَّيل والنَّهار في المسجد والبيت، وبين تربية وحضانة الأولاد، وتدبير شُؤون المنزل الأخرى.
واستمرَّ على هذه الحال سنواتٍ، جاهد فيها جهادًا مريرًا، وصبر فيها صبرًا عظيمًا. ومن يراهُ وهُو يحتضِنُ طِفْلتهُ الرَّضيعة في حُجره يُلاعبُها ويُناغيها، والبقية من الأطفال من حوله منهُم المريض، ومنهُم النَّائم، ومنهُم المُستيقظ، ومن حوله طُلاَّب العلم يُدرِّسُهم ويُلقِّنهم، علم يقينًا أنَّه من المُجاهدين العُظماء.
وبعد مُدَّةٍ قدم أحد جماعته من مكَّة المُكرَّمة، ورأى تلك الحالة التي يعيشُ فيها الشَّيخ فرقَّ له، وقال: أنا آخذ هذه الطِّفلة الصَّغيرة معي إلى مكَّة، وستقومُ زوجتي برعايتها، فأعطاهُ إيَّاها، وكان الشَّيخ ينزلُ لزيارتها كُلَّما ذهب لأداء العُمرة، أو لأداء الحجِّ.
ومضت السُّنون وكبُرت البنتُ، فلمَّا بلغت تسع سنين، ذهب الشَّيخ إلى مُربِّيها هذا، وقال: جزاك الله خيرًا البنت كبرت وأُريد آخُذها لأُعلِّمَها وأربِّيَها.
قال: ليس لك عندي بنت!!، فأنا الذي قام على تربيتها هذه المُدَّة الطَّويلة، وأنا لن أدفعها لك هكذا، إلا أن تدفع لي قيمة مصاريفي عليها هذه السِّنين الطَّويلة.
وكان الشَّيخ فقيرًا مستور الحال، ليس له من المال إلا ما يقوم بمصاريفه وبنيه.
فعاد إلى أبها وبلَغ ذلك بعض تلاميذه وجيرانه ومنهُم الشَّيخ أحمد بن مُسفر، فتشاورُوا، ورأوا أن يُخبروا الشَّيخ (صقر المدرع) مدير فرع وزارة العدل بعسير بهذه القصَّة لعلَّه يجد لهم مخرجًا.
فلمَّا علم بهذه القِصَّة قام (جزاه الله خيرًا) بإشعار أحد المسؤلين في مكة بمتابعة القضية، وأُتي بهذا الرجل فاعترف أنه إنَّما قام بتربيتها، ولكنَّه رفض التنازُل عن مصاريف تربيته، فحكم القاضي له بخمسين ألف ريال. يُدفع له منها النِّصف حالاً، والباقي إلى أجل.
فعاد إلى أبها بغير ابنته، وتسامع النَّاسُ بقصَّته هذه المُحزنة، فما كان من أحد طلبته إلاَّ أن أتى بذلك المبلغ وقدره خمسة وعشرون ألف ريالٍ في ليلة من اللَّيالي بعد صلاة المغرب في شيك.
فشكره الشَّيخ وقبل المبلغ وكتب معه خطابًا وأرسله إلى ذلك الرَّجُل بمكَّة. فلمَّا وصله مع المكتُوب، كأنَّ الرَّجُل أحسَّ بتأنيب ضميره، وبسُوء صنيعه مع الشَّيخ، فأعاد الشَّيكَ ومعهُ رسالةٌ أبدى فيها أسفه واعتذاره، وممَّا ذكر فيها: ((لو استطعتُ أن أكتُبها بدمي لفعلتُ)).
شاع الخبرُ بين النَّاس، وعلم بعض المُحسنين في أبها بذلك فقَدِم على الشَّيخ في مسجده بالمبلغ كاملاً وقدره خمسون ألف ريالٍ.
فقال الشَّيخ: قد قضى الله حقَّ الغريم.
ولكن إن رأيت أن تتبرَّع به للمُجاهدين كان هذا أحسن، فوافق المُحسن على ذلك.
وقال: هي لك اصنع بها ما شئت، فما كان من الشَّيخ إلا أن ضمَّها لتبرُّعات المُجاهدين التي كان يجمعُها لهم في كل عام طوال سني الجهاد الأفغاني، وذهب بها وسلمها إليهم.
هكذا مكث الشَّيخ بعد طلاقه لزوجته الأولى مدةً من الزَّمن، يُعاني ثقل حمل المسؤُولية في تربية أبنائه، والقيام بمهمَّة تدريس طلابه ليلاً ونهارًا، مع ما يُعانيه من العزُوبة والقيام بشُؤون البيت.
¥