وحذّر الله عباده المؤمنين أن يكونوا كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، وبيّن تبارك وتعالى أن سبب زيغه وضلاله هو اتّباع الهوى، فقال جل جلاله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
فَحَذار «فكم تعرقل في فخّ الهوى جناح حازم».
فهذا مركب الهوى قلّ من ركبه ثم تخلّى عنه، لأنه يهوي بصاحبه كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه.
وقد حذّر الله تبارك وتعالى من الزيغ الذي هو نتيجةٌ لاتّباع الهوى، فقال سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
قال ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يَدري ما يَصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لايدري ما فيه من الهلكة، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زُيِّنت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة، فقد يُسلب المرء دينُه ولا يشعر.
ولقد حرص السلف على هداية الخلق إلى الصراط المستقيم، لعلمهم بفضل هداية الخلق، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب حين بعثه يوم خيبر، فقال له: فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم. متفق عليه.
ولو لزم الأمر أن يشتري الهداية بماله لما كان ذلك مُستكثراً.
ومما ورد في كتب التاريخ والتراجم أن سعيد بن عثمان بن عفان لما استعمله معاوية رضي الله عنه على خراسان فمضى سعيد بجنده في طريق فارس فلقيه بها مالك بن الريب - وكان شاعرا فاتكا لصا و هو من شعراء الإسلام في أول أيام بني أمية - و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم ثيابا، فلما رآه سعيد أعجبه، و قال له:مالك و يحك! تفسد نفسك بقطع الطريق، وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث و الفساد، وفيك هذا الفضل؟ قال: يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات، و مكافأة الإخوان. قال سعيد: فإن أنا أغنيتك واستصحبتك، أتكف عما كنت تفعل؟ قال: أي و الله أيها الأمير أكف كفّاً لم يكف أحد أحسن منه. قال: فاستصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر
وهو الذي يقول:
ألم تَرَني بِعتُ الضلالة بالهدى وأصبحتُ في جيش ابن عفّان غازيا
فاحرص رعاك الله أن تكون مشعل هداية لبيتك، فانقل ما تسمعه إلى زوجتك وبيتك.
و ليُعلم أن الهداية نعمة عُظيمة، ومنَّةٌ جسيمة، فلا تحصل إلا بفعل السباب، وببذل الوسع في تحصيلها.
قال ابن القيم: إن لم يَصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له، فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه، ومعلوم أن وساوس العبد وخواطرَه وشهواتِ الغيّ في قلبه كل منها مانعُ وصول أثر الهداية إليه، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تامّاً فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه وهي أعظم حاجة للعبد.
أخيراً – رعاك الله – استمع إلى هذه الآيات وتأمل قول الله: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)
فهو يقول: لو أن الله هداني، وهو لم يأخذ بالأسباب الجالبة للهداية.
¥