وَالصَّحِيْح الَّذِيْ عليه الجمهور أنه ليس بكذب يصح به القدح في عدالة الرَّاوِي حَتَّى نرد جميع حديثه، وإنما هُوَ ضَرْبٌ من الإيهام، وعلى هَذَا نصّ الشَّافِعِيّ –رحمه الله– فَقَالَ: ((ومن عرفناه دلّس مرة فَقَدْ أبان لنا عورته في روايته، وليست تِلْكَ العورة بالكذب فنرد بِهَا حديثه، ولا النصيحة في الصدق، فنقبل مِنْهُ ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق)).
ويمكن حمل التشدد الوارد عن شعبة عَلَى ((المبالغة في الزجر عَنْهُ والتنفير)).
وإذا تقرر هَذَا، فما حكم حَدِيْث من عرف بِهِ؟ للعلماء فِيْهِ أربعة مذاهب:
الأول: لا تقبل رِوَايَة المدلس، سواء صرح بالسماع أم لا، حكاه ابن الصَّلاَحِ عن فريق من أهل الْحَدِيْث والفقه، وهذا مبني عَلَى القَوْل بأنّ التدليس نفسه جرح تسقط بِهِ عدالة من عُرِف بِهِ. وهذا الَّذِي استظهره عَلَى أصول مذهب الإمام مالك القاضي عَبْد الوهاب في الملخص.
الثاني: قبول رِوَايَة المدلس مطلقاً، وَهُوَ فرع لمذهب من قَبِلَ المرسل ونقله الْخَطِيْب البغدادي عن جمهور من قَبِلَ المراسيل، وحكاه الزركشي عن بعض شارحي أصول البزدوي من الحنفية. وبنوا هَذَا عَلَى ما بنوا عَلَيْهِ قبول المرسل؛ من أنّ إضراب الثقة عن ذكر الرَّاوِي تعديل لَهُ، فإن من مقتضيات ثقته التصريح باسم من روى عَنْهُ إذا كَانَ غَيْر ثقة.
الثالث: إذا كَانَ الغالب عَلَى تدليسه أن يَكُون عن الثقات فهو مقبول كيفما كانت صيغة التحديث، وإن كَانَ عن غَيْر الثقة هُوَ الغالب رد حديثه حَتَّى يصرح بالسماع، حكاه الْخَطِيْب عن بعض أهل العلم، ونقله الزركشي عن أبي الفتح الأزدي.
الرابع: التفصيل بَيْنَ أن يروي بصيغة مبينة للسماع، فيقبل حديثه، وبين أن يروي بصيغة محتملة للسماع وغيره فلا يقبل. وهذا الَّذِي عَلَيْهِ جمهور أَهْل الْحَدِيْث وغيرهم وصححه جمع، مِنْهُمْ: الْخَطِيْب البغدادي وابن الصَّلاَحِ وغيرهما وهو الحق.
ثانياً. حكم الْحَدِيْث المدلس:
لما كَانَ في حَدِيْث المدلس شبهة وجود انقطاع بَيْنَ المدلس ومن عنعن عَنْهُ، بحيث قَدْ يَكُوْن الساقط شخصاً أو أكثر، وَقَدْ يَكُوْن ثقة أَوْ ضعيفاً. فلما توافرت هَذِهِ الشبهة اقتضى ذَلِكَ الحكم بضعفه.
لكن المدلس إذا صرح بالسماع قبل حديث، مثاله: ما رواه محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة، قالت: رجع رسول الله ? من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي. وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي، فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك.
فمدار هذا الحديث على محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن في بعض الطرق، ولذا ضعف بعض العلماء الحديث بذلك، لكنه صرح بالسماع عند البيهقي في السنن الكبرى 3/ 396 فانتفت شبهة تدليسه فقبل حديثه.
ملاحظة: المدلس إذا دلس قد يسقط واحداً وقد يسقط أكثر من واحد.
وأسباب التدليس متعددة، فمنهم من صنع ذلك من باب إحسان الظن بمن أسقطوه، وإن كان مجروحاً عند غيرهم، وأسقطوه تمشية لروايته.
ومنهم دلس لصغر سن شيخه، ومنهم صنع ذلك لكراهة ذكره؛ لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه.
ومنهم من صنع ذلك لضعف شيخه، ومنهم من صنع ذلك لطلب العلو، ومنهم من يصنع ذلك إذا شورك عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو غير ذلك.
ومنهم من صنع ذلك لكثرته عن ذلك الشيخ
انظر في التدليس:
معرفة علوم الحديث: 103، والمدخل إلى الإكليل: 20، والكفاية: (508 ت، 355 ه)، والتمهيد 1/ 15، ومعرفة أنواع علم الحديث: 156، وجامع الأصول 1/ 167، والإرشاد 1/ 205، والتقريب: 63، والاقتراح: 217، ورسوم التحديث: 74، والمنهل الروي: 72، والخلاصة: 74، والموقظة: 47، وجامع التحصيل: 97، واختصار علوم الحديث 1/ 172، وبتحقيقي: 129، والشذا الفياح 1/ 173، والمقنع: 1/ 154، ومحاسن الاصطلاح: 77، وشرح التبصرة والتذكرة 1/ 234، وتنقيح الأنظار: 140، ونزهة النظر: 65، ومقدمة طبقات المدلسين: 13، والمختصر: 132، وفتح المغيث 1/ 169، وألفية السيوطي: 33، وشرح السيوطي على ألفية العراقي: 84، وفتح الباقي 1/ 224، وتوضيح الأفكار 1/ 346، وظفر
¥