أوجده الله فما مثله * بطالب ذاك ولا ناشد
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد
وأنشد سفيان بن عيينة قول أبي نواس:
ما هوى إلا له سبب * يبتدي منه وينشعب
فتنت قلبي محجبة * وجهها بالحسن منتقب
(ج/ص: 10/ 249)
خلته والحسن تأخذه * تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه * واستردت بعض ما تهب
فهي لو صيرت فيه لها * عودة لم يثنها أرب
صار جداً ما مزحت به * ربَّ جد جرَّه اللعب
فقال ابن عيينة: آمنت بالذي خلقها.
وقال ابن دريد: قال أبو حاتم: لو أن العامة بدلت هذين البيتين كتبتهما بماء الذهب:
ولو أني استزدتك فوق ما بي * من البلوى لأعوزك المزيد
ولو عرضت على الموتى حياتي * بعيش مثل عيشي لم يريدوا
وقد سمع أبو نواس حديث سهيل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((القلوب جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)).
فنظم ذلك في قصيدة له فقال:
إنَّ القلوب لأجناد مجندة * لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تناكر منها فهو مختلف * وما تعارف منها فهو مؤتلف
ودخل يوماً أبو نواس مع جماعة من المحدثين على عبد الواحد بن زياد فقال لهم عبد الواحد: ليختر كل واحد منكم عشرة أحاديث أحدثه بها، فاختار كل واحد عشرة إلا أبا نواس، فقال له: مالك لا تختار كما اختاروا؟
فأنشأ يقول:
ولقد كنا روينا * عن سعيد عن قتادة
عن سعيد بن المسيـ*ـب ثم سعد بن عباده
وعن الشعبي والشعـ*ـبي شيخ ذو جلاده
وعن الأخيار نحكيـ * ـه وعن أهل الإفادة
أن من مات محباً * فله أجر شهادة
فقال له عبد الواحد: قم عني يا فاجر، لا حدثتك ولا حدثت أحداً من هؤلاء من أجلك.
فبلغ ذلك مالك بن أنس وإبراهيم بن أبي يحيى فقالا: كان ينبغي أن يحدثه لعل الله أن يصلحه.
قلت: وهذا الذي أنشده أبو نواس قد رواه ابن عدي في كامله، عن ابن عباس، موقوفاً ومرفوعاً ((من عشق فعف فكتم فمات مات شهيداً)).
ومعناه أن من ابتلى بالعشق من غير اختيار منه فصبر، وعف عن الفاحشة، ولم يفش ذلك، فمات بسبب ذلك، حصل له أجر كثير.
فإن صح هذا كان ذلك له نوع شهادة، والله أعلم.
وذكر ابن كثير أخبارًا عما نُسِب إليه وقال:
وبالجملة فقد ذكروا له أموراً كثيرةً، ومجوناً وأشعاراً منكرة، وله في الخمريات والقاذروات والتشبب بالمردان والنسوان أشياء بشعة شنيعة، فمن الناس من يفسقه ويرميه بالفاحشة، ومنهم من يرميه بالزندقة، ومنهم من يقول: كان إنما يخرب على نفسه، والأول أظهر، لما في أشعاره.
فأما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة.
وقد عزوا إليه في صغره وكبره أشياء منكرة الله أعلم بصحتها، والعامة تنقل عنه أشياء كثيرة لا حقيقة لها.
وفي صحن جامع دمشق قبة يفور منها الماء يقول الدماشقة: قبة أبي نواس، وهي مبنية بعد موته بأزيد من مائة وخمسين سنة، فما أدري لأي شيء نسبت إليه، فالله أعلم بهذا.
....
وقال له محمد الأمين بن الرشيد: أنت زنديق.
فقال: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وأنا أقول:
أصلي الصلاة الخمس في حين وقتها * وأشهد بالتوحيد لله خاضعا
وأحسن غسلي إن ركبت جنابة * وإن جاءني المسكين لم أك مانعا
وإني وإن حانت من الكاسِ دعوة * إلى بيعة الساقي أجبت مسارعا
وأشربها صرفاً على جنب ماعز * وجدي كثير الشحم أصبح راضعا
وجواذب حوّاري ولوز وسكر * وما زال للخمار ذلك نافعا
وأجعل تخليط الروافض كلهم * لنفخة بختيشوع في النار طائعا
فقال له الأمين: ويحك! وما الذي ألجأك إلى نفخة بختيشوع؟
فقال: به تمت القافية.
فأمر له بجائزة.
وبختيشوع الذي ذكره هو: طبيب الخلفاء. (ج/ص: 10/ 252)
وقال الجاحظ: لا أعرف في كلام الشعراء أرق ولا أحسن من قول أبي نواس حيث يقول:
أية نار قدح القادح * وأيّ جد بلغ المازح
لله در الشيب من واعظ * وناصح لو خطئ الناصح
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى * ومنهج الحق له واضح
فاسم بعينيك إلى نسوة * مهورهن العمل الصالح
لا يجتلي الحوراء في خدرها * إلا امرؤ ميزانه راجح
من اتقى الله فذاك الذي * سيق إليه المتجر الرابح
فاغدُ فما في الدين أغلوطة * ورح لما أنت له رائح
وقد استنشده أبو عفان قصيدته التي في أولها: لا تنس ليلى ولا تنظر إلى هند.
¥