فلما فرغ منها سجد له أبو عفان، فقال له أبو نواس: والله لا أكلمك مدة.
قال: فغمني ذلك، فلما أردت الانصراف قال: متى أراك؟
فقلت: ألم تقسم؟
فقال: الدهر أقصر من أن يكون معه هجر.
ومن مستجاد شعره قوله:
ألا رب وجه في التراب عتيق * ويا رب حسن في التراب رقيق
ويا رب حزم في التراب ونجدة * ويا رب رأي في التراب وثيق
فقل لقريب الدار إنك ظاعن * إلى سفر نائي المحل سحيق
أرى كل حي هالكاً وابن هالك * وذا نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت * له عن عدو في لباس صديق
وقوله:
لا تشرهنَّ فإن الذل في الشره * والعز في الحلم لا في الطيش والسَّفه
وقل لمغتبط في التيه من حمق * لو كنت تعلم ما في التيه لم تته
التيه مفسدة للدين منقصة * للعقل مهلكة للعرض فانتبه
وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دكان وراق فكتب على ظهر دفتر هذه الأبيات:
أيا عجباً كيف يعصي الإلـ* ـه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه الواحد
(ج/ص: 10/ 253)
ثم جاء أبو نواس فقرأها فقال: أحسن قائله والله. والله لوددت أنها لي بجميع شيء قلته، لمن هذه؟
قيل له: لأبي العتاهية، فأخذ فكتب في جانبها:
سبحان من خلق الخلـ *ـق من ضعف مهين
يسوقه من قرار * إلى قرار مكين
يخلق شيئاً فشيئاً * في الحجب دون العيون
حتى بدت حركات * مخلوقة في سكون
ومن شعره المستجاد قوله:
انقطعت شدتي فعفت الملاهي إذ * رمى الشَّيب مفرقي بالدواهي
ونهتني النُّهى فملت إلى العدل * وأشفقت من مقالة ناهي
أيها الغافل المقرُّ على السهو * ولا عذر في المعاد لساهي
لا بأعمالنا نطيق خلاصاً * يوم تبدو السماء فوق الجباه
على أنَّا على الإساءة والتفـ * ـريط نرجو من حسن عفو الإله
وقوله:
نموت ونبلى غير أن ذنوبنا * إذا نحن متنا لا تموت ولا تبلى
ألا ربَّ ذي عينين لا تنفعانه * وما تنفع العينان من قلبه أعمى
وقوله:
لو أن عيناً أوهمتها نفسها * يوم الحساب ممثلاً لم تطرف
سبحان ذي الملكوت أية ليلة * محقت صبيحتها بيوم الموقف
كتب الفناء على البرية ربها * فالناس بين مقدم ومخلف
وذكر أن أبا نواس لما أراد الإحرام بالحج قال:
يا مالكاً ما أعدلك مليك كل من ملك * لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
عبدك قد أهلَّ لك أنت له حيث سلك * لولاك يا رب هلك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك والليل لما أن حلك * والسابحات في الفلك على مجاري تنسلك
كل نبي وملك وكل من أهلَّ لك * سبح أو صلى فلك لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك يا مخطئاً ما أجهلك * عصيت رباً عدلك وأقدرك وأمهلك
عجِّل وبادر أملك واختم بخير عملك * لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
وقال المعافى بن زكريا الحريري: ثنا محمد بن العباس بن الوليد، سمعت أحمد بن يحيى بن ثعلب، يقول: دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلاً تهمه نفسه لا يحب أن يكثر عليه كأن النيران قد سعرت بين يديه، فمازلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان حتى كلمني.
فقال: في أي شيء نظرت من العلوم؟
فقلت: في اللغة والشعر. (ج/ص: 10/ 254)
قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، قيل لي: هذا أبو نواس.
فتخللت الناس ورائي فلما جلست إليه أملى علينا:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل * خلوت ولكن في الخلاء رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا آثماً يخفى عليه يغيب
لهونا عن الآثام حتى تتابعت * ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى * ويأذن في توباتنا فنتوب
وزاد بعضهم في رواية عن أبي نواس بعد هذه الأبيات:
أقول إذا ضاقت عليَّ مذاهبي * وحلت بقلبي للهموم ندوب
لطول جناياتي وعظم خطيئتي * هلكت ومالي في المتاعب نصيب
واغرق في بحر المخافة آيساً * وترجع نفسي تارة فتتوب
وتذكرني عفو الكريم عن الورى * فأحيا وأرجو عفوه فأنيب
وأخضع في قولي وأرغب سائلاً * عسى كاشف البلوى عليَّ يتوب
قال ابن طراز الجريري: وقد رويت هذه الأبيات لمن؟
قيل: لأبي نواس، وهي في زهدياته.
وقد استشهد بها النحاة في أماكن كثيرة قد ذكرناها.
وقال حسن بن الداية: دخلت على أبي نواس وهو في مرض الموت فقلت: عظني.
فأنشأ يقول:
فكثِّر ما استطعت من الخطايا * فإنك لاقياً رباً غفورا
¥