تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على صخرة قرب الخليج حينما تحتضر الشمس وتلملم جراحاتها استعداداً للرحيل جلس الغريب يجر هموم الدنيا، وقلب عليل أتعبه المرض والسفر والحنين إلى الوطن. وراح يطيِّر من عينيه البصر صقوراً حائرة في عرض الخليج تبحث عن شواطئ وطنه بعدما تاهت سفينته، لم يجد إلا قلبه بوصلة تشير باتجاه الذكريات وطناً فراح الشاعر يسترجع الوطن صوراً تنبض بالحنين، يتذكر وجه أمه القمر وصوتها النسيم العليل وحكاياتها الأسطورية حينما يدلهم الليل. والتنور الوهاج والخبز الساخن وعروسة الزيت والزعتر .. ويحن شاعرنا إلى وطنه العراق، ويشعل أفول الشمس نار الذكريات في قلبه، فالظلام المطبق والدم الثائر والحنين كلها أصوات يتردد صداها في قرارات نفسه، ويشتاق إلى الشمس حينما تتغلغل بين أشجار النخيل وإلى ليل الصيف على البيادر ومواويل الحصادين وإلى ضحكات الطفولة وتلك الجديلة السوداء التي كانت تسافر مع الريح حينما يلعبان، ثم ينتبه الشاعر من غفوته يلملم عذاباته ويخفيها في طيات الروح، ويفيق على فقره للوسيلة التي ترجعه للعراق وعلى عوزه للنقود وأن كل ما يدخره هو الدموع والبكاء على أطلال العراق في داخله ولا يملك سوى الانتظار دون جدوى.

ولا شك أن الشاعر في هذه الأبيات عرف كيف يحرك خلجات الحنين بين أضلاعنا، وجعلنا نشعر بصدق أحاسيسه وعفوية مشاعره وليس هذا غريب على رائد قصيدة التفعيلة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب والذي سرقه مرض عضال في زهوة شبابه. م

غريب على الخليج

بدر شاكر السياب

الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل

وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل

زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار

من كل حاف نصف عاري.

وعلى الرمال، على الخليج

جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج

ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج:

"أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج

صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق،

كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي: عراق

والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون

والبحر دونك يا عراق

بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق ..

وكنت دورة أسطوانة

هي دورة الأفلاك في عمري، تكور لي زمانه

في لحظتين من الأمان، وإن تكن فقدت مكانه.

هي وجه أمي في الظلام

وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام،

وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهم مع الغروب

-2 -

فاكتظ بالأشباح تخطف كل طفل لا يؤوب

من الدروب وهي المفلية العجوز وما توشوش عن (حزام)،

وكيف شق القبر عنه أمام عفراء الجميلة

فاحتازها .. إلا جديله.

زهراء أنت .. أتذكرين

تنورنا الوهاج تزحمه أكف المصطلين؟

وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين؟

ووراء باب كالقضاء

قد أوصدته على النساء

أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال

كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال.

أفتذكرين؟ أتذكرين؟ سعداء كنا قانعين

بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء.

حشد من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانه،

كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه.

أفليس ذلك سوى هباء؟

حلم ودورة أسطوانه

إن كان هذا كل ما يبقى فأين هو العزاء؟

أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه،

يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء

والليل أطبق، فلتشعا في دجاه فلا أتيه،

لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يدي .. هو اللقاء

شوق يخض دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء

-3 -

جوع إليه .. كجوع كل دم الغريق إلى الهواء

شوق الجنين إذا أشرأب من الظلام إلى الولاده

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام - هناك أجمل، فهو يحتضن العراق.

وآحسرتاه، متى أنام

فأحس أن على الوسادة

ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق؟

بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة

غنيت تربتك الحبيبة،

فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمي من عثار

فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار.

ما زلت أضرب مترب القدمين أشعث، في الدروب

تحت الشموس الأجنبية،

متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يداً ندية

صفراء من ذل و حمى: ذل شحاذ غريب

بين العيون الأجنبية،

بين احتقار، وانتهار، وازورار .. أو (خطية)

والموت أهون من (خطية)

من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية

قطرات ماء .. معدنية

-4 -

فلتنطفئ، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا .. نقود،

يا ريح، يا إبراً تخيط لي الشراع، متى أعود

إلى العراق؟ متى أعود؟

يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود

بي الخليج، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود.

ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار

أو ليت أن الأرض كالأفق العريض، بلا بحار،

ما زلت أحسب يا نقود، أعدكن واستزيد

ما زلت أنقض، يا نقود، بكن من مدد اغترابي

ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي

في الضفة الأخرى هناك. فحدثيني يا نقود

متى أعود، متى أعود؟

أتراه يأزف، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟

سأفيق في ذلك الصباح، وفي السماء من السحاب

كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب،

وأزيح بالثوباء بقياً من نعاسي كالحجاب

من الحرير، يشف عما لا يبين وما يبين:

عما نسيت وكدت لا أنسى، وشك في يقين.

ويضيء لي - وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي

ما كنت أبحث عنه في عتمات نفسي من جواب

لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب؟

اليوم - واندفق السرور علي يفجأني - أعود

-5 -

واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق

وهل يعود

من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدخر النقود

وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما تجود

به الكرام، على الطعام؟

لتبكين على العراق

فما لديك سوى الدموع

وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياض وللقلوع.

الكويت 1953

تُرى هل يعلم السياب كم من عراقي الآن يصرح بمرارته التي صرح بها هو؟! وبطرق مبتكرة أو ربما بالصمت أحيانا.

أصبحنا في المنافي ...... نعتصر أنفسنا عندما تخدشنا ألحاظ العابرين ............ ونترجم نظراتهم بـ (خطية) ..... والموت أهون من خطية!! م

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير