[المقدمة الطللية بين الاستجابة النفسية والتقليد الفني]
ـ[الفارسي]ــــــــ[24 - 09 - 2005, 10:32 م]ـ
المقدمة الطللية بين الاستجابة النفسية والتقليد الفني ـــ د. بوجمعة بو بعيو
أ- المنظور النقدي:
حفل الشعر الجاهلي بمعالجة قضايا مختلفة، منها ماله علاقة بالمجتمع في تعامله مع مايحيط به خارج القبيلة وداخلها من قيم اجتماعية وإنسانية وسياسية، كما أن هذا الموروث الشعري مثّل ظاهرة بارزة وهي المتمثلة في شعر الغزل الذي يعدّ الجزء الأوفر من تلك الثروة الشعرية، وقد نقش الشعراء الجاهليون من خلال عاطفة الحب عواطفهم وأحاسيسهم، ومايتبع ذلك من وصل وهجر وسعادة وشقاء ولذة وعفة.
وطغت ظاهرة الشعر الغزلي بشكل لافت للنظر، قياساً إلى الأغراض الشعرية الأخرى مثل المدح والهجاء والرثاء (1).
وبقدر ما زخر الشعر الجاهلي بأغراض شعرية أضاءت جوانب من صور حياة الجماعة أو القبيلة في أثناء الحروب والغزوات وائتلافها واختلافها مع القبائل الأخرى، فقد حفظ هذا الشعر- في فنونه الغزلية- خبايا النفوس ونبضات القلوب ومسارح الذكريات، فمثل بذلك ثروة هائلة وضعت أيدينا على الكيفية التي تعامل بها الشاعر الجاهلي مع الذات حين يتعلق الأمر بحياته الخاصة، وبجوانبها العاطفية عامة.
ومما لايدع مجالاً للشك أن ظاهرة غزارة الشعر الغزلي في العصر الجاهلي تنم عن ذاتية هذا الشعر في مجمله، أو في منحاه العام، وكذا عن فرديته.
فشعر نابع من إنسان يعيش في أعماق الصحراء بين غنمه وإبله، وتحت سماء زرقاء، وطبيعة لاترحم، من البديهي أن يُنْشئ شعراً غنائياً ذاتياً.
وعلى ماتجلى في هذا الشعر من صور اجتماعية عبّرت عن حياة ذلك البدوي الاجتماعية على المستوى الفردي، وعلى مستوى القبيلة فقد طغت -مقابل ذلك- الصفة الفردية الذاتية للشاعر الجاهلي، فبقدر ماعبّر عن قبيلته، فإنّه كان أيضاً ((معبراً عن وجوده النفسي، وعواطفه الخاصة ... إنه لم يكن بوق القبيلة فقط، ولكنه كان قيثارة نفسه، وصدى لقبيلته بعد ذلك)) (2).
ثم إن بعض الأغراض الشعرية الأخرى ارتبطت بفن الغزل ارتباطاً وثيقاً بحيث إن الشاعر قد ينظم في غرض شعري ما، وصولاً إلى غرض الغزل والعكس أحياناً، ويقول أحد الدارسين في هذا الشأن: ((بل إن الأغراض الأخرى التي عرض لها الشعراء الجاهليون لم تكن- في كثير من الأحيان- مقصوداً إليها قصداً ولا متعمّد تعمداً .. كانت روح الحب وعواطف الهوى هي التي تبتعثها وهي التي تكمن وراءها ... وبتعبير آخر، كانت هذه الأغراض تتصل بالغزل بهذا المسبب أو بذاك، بالسبب الواضح، أو بالسبب الغامض)) (3) ,
ومن أهم مايجدر الإشارة إليه في القصيدة الجاهلية، ليس شعر الغزل الذي يأتي في ثنايا موضوعات الشعر الجاهلي الذي يختلط فيه شعر الحرب بشعر الحب، والرثاء بالفخر مثلاً، ولكن أن تسن سنة يتعذر تجاوزها أو الخروج عنها لدى الشاعر الجاهلي عامة، فتلك التي نريد الوقوف عندها ومحاولة معالجتها ونعني بها ما اصطلح عليها بالمقدمة الطللية، أو الوقوف على الأطلال وبكاء الديار الدارسة.
لقد عالج جلّ شعراء الجاهلية -إن لم نقل كلهم- في مستهل قصائدهم -قصة الدار الدارسة، فوصفوها وحّددوا معالمها، وافْتَنُّوا في تحديد مواضعها والإشارة إلى ملامحها التي تدلّ على وجودها في الزمن الماضي، الذي له علاقة حميمة بذكرياتهم مع الحبيبة، والتي امّحت ودَرَسًتْ ديارها بذهابها، فما بقي إلا البكاء على أطلالها واسترجاع ذكرياتها.
الواقع أن هذا الموضوع مازال إلى يومنا هذا، يثير تساؤلات عديدة، فقد تقنعنا وجهة نظرها، من زاوية معينة، في حين يظلّ التساؤل مطروحاً في جانب آخر.
فمع تسليمنا بشفوية النص الشعري الجاهلي، فذلك يعني بالضرورة أن تحديد الأزمنة والأمكنة تحديداً دقيقاً يظل أمراً قابلاً للأخذ والرد، كما أن أمر أسبقية شاعر على آخر من الناحية الزمنية يظل نسبياً بسبب افتقادنا للنص المدوّن، مادام التدوين يتم على مستوى الذاكرة فحسب، وهذا يمثل نقطة البداية في طرح مجموعة من التساؤلات ومن أولاها أن المقدمة الطللية هي من ابتكار شاعر جاهلي أراد أن يعبّر عن حاجة من حاجاته النفسية، ويعرب عن خبايا هذه النفس التي نظرت فيما حولها، فوجدت الديار قد زالت وامّحت، وماكان يزينها ويضفي عليها شيئاً من المؤانسة والإحساس بالجمال بالاطمئنان، قد غادرنا
¥