(3) الأسلوب العلمي المتأدب
إذا كان الأسلوب العلمي محدد المعاني، خاليا من العاطفة والخيال والبلاغة لأن هدفه الإفهام والإقناع. وإذا كان الأسلوب الأدبي حافلا بالعاطفة محشوا بالخيال، قائماً على الأساليب الفنية البلاغية لأنه يهدف إلي الإمتاع والتأثير - كما في الأمثلة السابقة - فإن هناك أسلوباً يجمع بين الحسنيين - يجمع بين أهداف الأسلوب العلمي في عرض الحقائق العلمية ويقصد إلي الإفهام والإقناع، ويجمع بين بعض سمات وجماليات الأسلوب الأدبي - هذا الأسلوب يسمي " الأسلوب العلمي المتأدب - وهو المتمثل في النصوص العلمية التي تكتسب قيمة أدبية من طريقة عرضها - وعلى رأس هذا النوع كتب التاريخ وكتب الرحلات. فمن مؤلفيها من يمتعون القارئ بطريقتهم في سرد الأحداث، ووصف المناظر، وتقديم الشخصيات، وتحليل الدوافع الإنسانية. حتى لتحسب أنك تقرأ قصة خيالية لاعرضا علمياً.
إنه أسلوب يقدم لنا الحقائق العلمية في أسلوب يقربها إلينا وتخفيف جفافها باستخدام الأسلوب الأدبي الجميل.
1 - أركان الأسلوب العلمي المتأدب:
1. الأفكار والمعاني.
2. الصياغة
3. بعض جماليات الأسلوب الأدبي
2 - نموذج للأسلوب العلمي المتأدب:
من مقال لوظيفة الكبد للدكتور / خالص جلبي قال:
" الكبد سد كبير أمام نفوذ أي سم إلي البدن، ما لم يتغلب على الخلايا الكبدية ويدمرها، وبذلك تكون خلايا الكبد الحارس الأمين للبدن فلا يسمح بأن يتأذي حتى يكون العطب قد استولي على خلايا الكبد بالذات فهل بعد هذا الفداء والتضحية من تضحية؟
إن جملة من طرائق الكبد في التخلص من السموم، ما هو بسيط في ضرب الحصار حوله، أو إتلافه وإيثاقه، كما في إيثاق المجرمين، وعملية الأيثاق هنا هي المعروفة باتحاد السم مع حمض الكبريت، أو حمض الفلوكورنيك.
وبهذه الطريقة يمكن نقل هذه المادة السامة بأمان من خلال المصرف العام أي: القناة الصفراوية، حيث تطرح في الأمعاء مرة أخري لتلقي خارج الجسم.
المتأمل لهذه الفقرة العلمية التي تشرح بطريقة علمية وظيفة الكبد وأهميته في حياة الإنسان، يري أنه قد شرح هذه الحقائق العلمية من تركيبات الخلايا، والأحماض، ودورات الدم، والقناة الصفراوية - وكلها مصطلحات علمية جافة - إلا على المتخصصين في مجالها. نري الكاتب هنا قد صاغ هذه الحقائق العلمية بأسلوب ملتزم بالحقائق العلمية لكن مع تخفيف الجفاف العلمي، والتفسير الطبي - فاستخدم ألفاظا لاجفاف فيها. (الحارس الأمين - الفداء - التضحية - ضرب الحصار حوله، المصرف العام).
ومع احتفاظه بسلامة الحقائق العلمية فإنه قد قربها إلي الأذهان ووضحها بالصور الخيالية، مثل:
* الكبد سد كبير أمام نفوذ أي سم إلي البدن = تشبيه بليغ
* كما في إيثاق المجرمين = تشبيه.
* المصرف العام = استعارة تصريحية.
من هنا وجدنا أن هذه الفقرة تجمع بين موضوع وأهداف الأسلوب العملي، وبين بعض سهولة ووضوح وخيال الأسلوب الأدبي، فحق أن يسمي هذا الأسلوب العملي المتأدب. لأنه خليط من خصائص الأسلوب العلمي ومن خصائص الأسلوب الأدبي.
3 - خصائص الأسلوب العلمي المتأدب:
1. يعالج جميع القضايا العلمية والإنسانية.
2. يعرض أفكاره العلمية بأسلوب سهل مفهوم.
3. يخفف من استخدام المصطلحات العلمية، ويبسط عرضها.
4. دقة استخدام الألفاظ والأساليب.
5. فيه بعض الصور الخيالية، لتوضيح الفكرة وشرحها بصورة واضحة.
6. فيه بعض من مظاهر شخصية الكاتب، دون طغيان على الحقائق العلمية.
7. يهدف إلي الإفهام والإقناع، مع بعض التشويق والإثارة.
8. فيه قليل من المحسنات البلاغية - التي تجئ دون قصد. أو يخلو منها.
4 - نموذج للدراسة من الأسلوب العلمي المتأدب:
" مع الله في الأرض - الطير - من مقال الدكتور أحمد زكي - مجلة العربي أغسطس 1973)
[إن الأحياء جميعاً نشأت من الوحدة على بساط من الخلق الواحد، دليل صنعة فيها واحدة، وصانع واحد، ولكنها صنعة فاهمة عاقلة، مدبرة قادرة مقتدرة تغير من أعضاء ووظائف أعضاء ما يتفق مع العيشة على الأرض، أو العيشة في الماء، أو العيشة في السماء.
ومن أجل ذلك اشتركت الطيور مع الزواحف في الكثير، ولكن لما أريد للطير أن يصعد إلي الهواء تغير كنهه، وتغيرت وظائف أعضائه في الكثير. تغيرت بكل ما يمهد أو يسهل على الطير أن يطير.
فأولاً شكله المسحوب: فهو يخترق الهواء بأقل ما يمكن من معارضة واحتكاك. ثم وزن الطير؛ فقد قل هذا الوزن دون أن يفقد القدرة على إعطاء الطاقة اللازمة، وعظام الطير خفت، وهي مسامية؛ ومنها ما يملؤه الهواء، ورجلاه الأماميتان اللتان لذوات الأربع تحولتا إلي جناحين هما أداة الطير، وفيهما من سر الخلق بحسن الصنع فشئ الكثير].
هذا النص جزء من مقال كتب بالأسلوب العلمي المتأدب، وفيه نلاحظ:
1. المادة العلمية فيه سليمة دقيقة، فلا تجاوز للحقائق العلمية في الحديث عن شكل الطير، أو تكوين جسمه.
2. أنه مع هذه الموضوعية - يقف عند مواطن الإبداع، وأسرار الخلق وقفات متأنية متأملة، ليجلو، ويوضح، ويفسر، ويملأ العقول باليقين والقلوب بالنور.
3. عبارات المقال تحتفظ بدقة اللغة العلمية، وذلك باستخدام الألفاظ المحددة الدلالة، مثل: بأقل ما يمكن، تغيرت وظائف أعضائه في الكثير.
4. ومع هذه اللغة مؤثرات فنية تخفف من جفاف المادة العلمية ونعرضها عرضا جذاباً، وتري ذلك واضحا في التصوير في قوله: " ولكنها صنعة فاهمة عاقلة، متصرفة قادرة مقتدرة "
وهكذا جمع المقال بين دقة المادة العلمية والموضوعية في عرضها، وبراعة في الكشف عما وراءها من أسرار - كما تري أسلوبا يجمع إلي الدقة في أداء المعاني القدرة على الإمتاع، والتأثير وهي صفات الأسلوب العلمي المتأدب.
(4) أما الأسلوب العلمي الميسر فلا أدري عنه شيئا
¥