تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بالشعر، فهو أداته ووسيلته التي يملك زمامها وله حرية التصرف فيها فيصب عليه تمرده وثورته مبدعاً وخالقاً ومبتكراً ومغيراً ومجدداً كيفما تمليه عليه النزعة الداخلية لبواطن النفس تعبيراً عن ذاتية نزعت إلى التغيير والتحرير في البناء الاجتماعي المتصدع ومعطياته ومكوناته الأساسية لما تقتضيه سبل الحضارة وعوامل التطور.

أما الدوافع النفسية فهي انعكاس لما يعانيه الشاعر من واقع مؤلم نتج عن الكبت الروحي والمادي الذي خلقه الاستعمار على عالمنا العربي، وكانت نتيجته وأد الحريات في نفوس الشعوب وقتل الرغبة في التطلع إلى الحياة الفضلى مما أدى إلى الشعور بالغبن والظلم والاستبداد والضيق الشديد والمعاناة الجامحة من هذا التسلط الذي نمى في النفوس حب الانطلاق والتحرر من عقال الماضي، وأوجد الرغبة في التحرر على المخلفات البالية ـ فتولد عن الميل بل الجنوح إلى خلق نوع جديد من العطاء الفني تلمس فيه الأمة بأنها بدأت تستعيد نشاطها وحريتها، وأن سحابة الكبت المخيمة على سمائها قد تبددت وإلى الأبد وأعقبها الغيث الذي سيغسل النفوس من أدرانها ويعيد إليها حيويتها وجدتها، وما هذا العطاء الفني المتجدد إلا ثمرة من ثمار الثورة والتمرد على الواقع المرير والبوح بالمعاناة التي يحس بها الشاعر، وترجمة لنوازع نفسية داخلية تميل إلى الرفض وتنزع إلى العطاء المتجدد.

وإلى جانب الدافع الاجتماعي والنفسي ثَمَّ دوافع أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها بل هي وليدة عنها، منها " النزعة إلى تأكيد استقلال الفرد التي فرضت على الشعراء الشبان البعد عن النماذج التقليدية في الشعر العربي، وإبراز ذاتيتهم بصورة قوية مؤكدة ".

كما يؤكد الدكتور محمد النويهي بأن الدافع الحقيقي إلى استخدام هذا اللون من الشعر هو " الرغبة في استخدام التجربة مع الحالة النفسية والعاطفية للشاعر، وذلك لكي يتآلف الإيقاع والنغم مع المشاعر الذاتية في وحدة موسيقية عضوية واحدة ".

أما مميزات الشعر فلا تقل أهمية عن غيرها من مميزات المدارس الشعرية الأخرى بل ربما كان هذا اللون من الشعر أكثر تحقيقاً لبعض العناصر التي لم تتوفر في الأنماط الشعرية الأخرى كالوحدة العضوية مثلاً، وفي هذا الإطار يقول أحد الباحثين: " وإذا كان شعراء المدرسة الرومانسية قد نجحوا في تحقيق الوحدة الموضوعية للقصيدة الشعرية، فإن شعراء مدرسة الشعر الحر قد وفقوا في تحقيق الوحدة العضوية المبنية على التناسق العضوي بين موسيقى اللفظ أو الصورة وحركة الحدث أو الانفعال الذي يتوقف عليه ".

ثم يواصل الباحث حديثه قائلاً: " وإن هذا بدوره يؤدي إلى إبراز مظاهر النمو العضوي للانفعالات والمشاعر، ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا كان الشكل الجديد للقصيدة العربية أقرب معانقة لروح العصر الذي نعيشه وأكثر استيعاباً لمضامينه الحية، بالإضافة إلى ما يتميز به من مرونة في موسيقاه حيث تتلون بتلون الانفعال، وتنمو بنمو الموقف وديمقراطية اللغة حيث تقترب هذه اللغة من الإنسان العادي في الشارع والمصنع والحقل، وكذلك ربما يرمز إليه من تعدد في التشكيل وترادف في التركيب وموضوعية في الرصد وشمولية في التمثيل والهروب من الذات ".

وقد أشار إلى بعض الميزات السابقة أحد الباحثين أيضاً قال: " وقد تميزت قصيدة الشعر الحر بخصائص أسلوبية متعددة فقد اعتمدت على الوحدة العضوية، فلم يعد البيت هو الوحدة وإنما صارت القصيدة تشكل كلاماً متماسكاً، وتزاوج الشكل والمضمون، فالبحر والقافية والتفعيلة والصياغة وضعت كلها في خدمة الموضوع وصار الشاعر يعتمد على " التفعيلة " وعلى الموسيقى الداخلية المناسبة بين الألفاظ ".

وخلاصة القول إن انطلاقة القصيدة العربية وتحررها من عقالها جعلها أكثر مرونة وحيوية وتجاوباً مع نوعية الموضوع الذي تكتب فيه، ومنحت الشاعر الفرصة في التعبير عن مشاعره وتجاربه الشعورية بحرية تامة فلا تقيد بأطوال معينة للبيت الشعري ولا كد للذهن بحثاً عن الألفاظ المتوافقة الروى ليجعل القصيدة على نسق واحد وما تتهيأ تلك الأمور للشاعر إلا على حساب الموضوع من جانب وفقدان الوحدة العضوية وعدم الترابط بين مكونات القصيدة من جانب آخر، ومن هنا نجد ميل الشعراء المحدثين إلى استخدام قصيدة الشعر الحر للتعبير عن مشاعرهم وذلك لما تميزت به من سمات فنية جمعت فيها إلى جانب الوحدة الموضوعية، والوحدة العضوية والموسيقية أضف إلى تحررها من القيود الشكلية التي تحد من قدرات الشاعر وانطلاقه في التعبير عن خوالج نفسه بحرية وعفوية تامتين.

منقول

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير