ولقد كتبوا في الوحدة العربية وفلسطين والرحلات الخيالية والتفاؤل والأمل واليأس ... ومواضيع شتى والناقد الخبير عندما يقلب نظره في الأدب المهجري يدرك أن وراء ذلك التجديد أصالة فنية وعبقرية عميقة صانت ذلك الشعر من العبث الرخيص الذي نراه عند بعض المسوخ ممن يدعون تجديد الشعر، وهم لايفهمون من التجديد إلا أنه ضرب من اللعب بالكلمات. فلقد عرف المهجريون المفهوم العربي الأصيل لحقيقة الشعر (4) إذ علموا أنه التعبير المصور لخلجات النفس، فالتزموا لذلك قوانينه الثابتة من حيث المحافظة على روح الموسيقى، فأنت تقرأ لهم الكثير من الشعر الذي خالفوا فيه طريقة الخليل، ولكنك تحس في كل ذلك أنك تقرأ شعراً أصيلاً يسمو بك إلى ذروة التعبير الفني. ذلك لأن تجديدهم في شكل الشعر لم يسىء إلى موسيقاه بل أضاف إليه ألواناً جديدة من النغم المتحرك المتنقل المنسجم معاً اقرأ معي هذه المقطوعة الصغيرة من منظومة طويلة عن «خيمة الناطور» للشاعر المهجري الشمالي رشيد أيوب:
لظلام الليل فضل في الحياة
مثلما للنور
أين لولا الليل حسن النيرات
أيها المغرور
فخذ الدنيا وما فيها .. وهات
خيمة الناطور
أفلا تحس في هذه الانتفاضة ضد المادية الأمريكية طعماً من النغم لا يتوافر في القصيد التقليدي؟ .. إن الشاعر لم يتردد على موسيقى الشعر، وكل ما فعله، هو أنه تجاوز بحور الخليل المألوفة إلى شكل آخر، رتب فيه التفاعيل والقافية على طريقة أكثر عذوبة وانسجاماً مع طبيعة الغناء، فكأنه للانشاد لا للقراءة وهو هو نفسه السر الذي دفع شعراء الأندلس من قبل إلى إبداع الموشح، وثمة مقطوعة أخرى لشاعر مهجري آخر من رفاق أيوب هو الأستاذ ميخائيل نعيمة الذي لا يقل عنه قفزات شعرية، ها هو يصور أحزانه على وطنه أثناء الحرب العالمية الأولى:
أخي إن ضجَّ بعد الحر ....
ب غربي بأعماله
وقدس ذكر من ماتوا
وعظم بطش أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا
ولا تشمت بمن دانا
بل اركع صامتاً مثلي
بقلب خاشع دامِ
لنبكي حظ موتانا
وهذا النوع من الشعر سبق أن رأينا له شبيها في الأندلسيات ولكن لم ينسج الشاعر المهجري هذا ليقلد وإنما ليقفز محلقاً وكأنه لم يسبق. ولعل مطولة أبي ماضي الشهيرة وما فيها من تأملات ترينا تجديداً من لون آخر في كل رباعية حيث يتقيد بوحدة في كل رباعية، وإليك مثالاً منها (5):
انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان
وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان
والتقى العاشق والقالي، فما يفترقان
أفهذا منتهى العدل؟ فقالت: لست أدري
وثمة لون آخر في زفرات «أنشودة الغريب» للقروي يصورها خياله الحالم:
حتام أبقى غريب
مالي وطن
يايوم وصل الحبيب
أنت الزمن
الخاتمة:
وبهذه العجالة نرى بوضوح أن الأدب المهجري استجاب للمؤثرات النفسية التي عاشها أدباؤه فخرجوا عن القالب التقليدي للشعر العربي، وكان التجديد عملاً طبيعياً كلون من ألوان التطور الذي تتطلبه الحياة الغربية «ويمكن تلخيص اتجاههم هذا بكلمة صغيرة، إن هؤلاء الشعراء يؤمنون بحرية الشاعر في كل ما يتصل بعدد التفاعيل وألوان القافية، ولكنهم - في الوقت نفسه - يوقنون بأن الشعر موسيقى وروح لا افتراق بينهما، وأن الدفقة الشعورية هى التي تعين للشاعر نوع القافية وما يجب أن يختار لها من الوزن والشكل. وهم - بذلك - يختلفون أشد الاختلاف عن أولئك المساكين الذين تصوروا التجديد خروجاً عن كل مألوف من الوزن والشكل، فتاهوا في صحراء غرورهم، إذ راحوا يهرفون بما لا يعرفون! (6).
فالأدباء المهجريون ثائرون ومشغوفون بالطبيعة من حولهم وهم ذاتيون فرديون أخلصوا لمشاعرهم واستمعوا لهمسات نفوسهم وصاغوا ذلك في شعر عذب «فهم مجددون بالمعنى الواسع لكلمة التجديد في الأساليب واللغة ومجددون في الموضوعات التي يطرقونها» (7) ونجد إبداعهم أيضاً في ناحية المضمون والمعاني والأغراض والعمق النفسي.
الهوامش:
(1) قصة الأدب المهجري: د. محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الكتاب اللبناني بيروت، لبنان. د. ت ص (10).
(2) ديوان القروي: ص (37).
(3) إلياس فرحات: شاعراً وانساناً حكيماً: د. حيدر مصطفى، ص56 - 62 - رسالة دكتوراه.
(4) تحفة الأدب من ثقافة اللبيب: محمد المجذوب، ص216.
(5) تحفة اللبيب من ثقافة الأديب: محمد المجذوب، ص219.
(6) تحفة اللبيب: ص222.
(7) دراسات في الشعر العربي المعاصر: شوقي ضيف، مكتبة الدراسات الأدبية، دار المعارف ط7 - القاهرة عام 1979م.
عن موقع"رابطة العالم الاسلامي"
ـ[خالد عايش]ــــــــ[23 - 08 - 2007, 08:38 م]ـ
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
أخي الغنام: بارك الله فيك، أتحفتنا بهذا الموضوع،و لكن ما رأيك فيما يسمى (قصيدة النثر)، وهل توافق هؤلاء الذين يرون أن الشعر يمكن أن يتخلى عن القافية و الوزن؟
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[23 - 08 - 2007, 08:50 م]ـ
طبعا لا ... الشعر شيء آخر وهم يتكلمون عن أشياء أخرى غير الشعر، فإذا جردنا القصيدة من الأوزان والقافية هل يبقى اسمها قصيدة!!! طبعاً لا أخي الكريم،بوركت وبورك مرورك الكريم.