تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن عبارة: «نسج الخيال حول هذه الروايات المنقولة شفوياً طائفة من الأخبار الأسطورية»، التي ذكرها جب هي التي تحوّلت عند طه حسين إلى فكرة (نحل الشعر)، وهي الفكرة التي أدار عليها مباحث كتابه (في الشعر الجاهلي)، وقرر فيها أن الشعر الجاهلي شعر منحول، ونبّه القارئ في مطالع كتابه قائلاً: «وأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك أو قل ألح على الشك فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبّر حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقيناً فهو أقرب من اليقين ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين». بمعنى أن الشعر المعروف اليوم الشعر الجاهلي إنما هو إسلامي الصنعة، وأن الشعر الجاهلي هو شيء آخر سيحدثنا طه حسين عن كنهه!

وجاءت الإجابة سريعاً في المبحث الثالث الذي عقده طه حسين في كتابه، بعنوان (مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي)، ومؤداه أن القرآن هو أثر أدبي من العصر الجاهلي، فهو إذاً الشعر الجاهلي الحقيقي، وأنه لدى الحقيقة نص بشري كما يقول عنه خصومه من المستشرقين وغيرهم.

متابعة مارغليوث:

وهنا، استغنى طه حسين عن الدكتور جب ليتابع مستشرقاً أكثر فظاعة وتطرفاً هو الدكتور مارغليوث، فهو القائل إن الشعر الجاهلي هو سجع الكهان، وأن القرآن شيء من سجع الكهان. وقد تجرأ هذا الأعجم ليحدث العرب ويعلمهم أن الشعر إن الشاعر عند العرب ليس هو الشاعر الذي ينظم القوافي وإنما هو الكاهن الذي يرجم بالغيب.

وقد عمل مارغليوث على الاستدلال على صحة ذلك الفرض الغريب الشاذ بالقرآن نفسه، فأخذ من قول الله تعالى: «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون»: «إنه كان من عادة الشعراء التنبؤ بالمستقبل». وأخذ من قول الله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين»: «إن الشعر كان كلاماً غامضاً غير مبين»، أي أنه أشبه بسجع الكلمات والرجم بالغيب، ثم أخذ يلوي أعناق النصوص عندما تتصادم مع مبتغاة فقال عن قول الله تعالى الذي يستثني فيه بعض الشعراء عن الغواية والضلال: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً»: «إن اسلوب القرآن يجعل من غير المؤكد ما إذا كان هذا الاستثناء ينطبق على الشعراء في الواقع». فها هو ينفي مراد القرآن ليثبت مراده هو هنا، ثم ينطبق من ذلك ليمهّد لقبول دعوى أخرى وهي أن نص القرآن كان قريباً جداً من سجع الكلمات بعيداً عن صورة الشعر الذي نعرفه اليوم ومنه الشعر الذي ينسبه البعض إلى العصر الجاهلي.

ويقول مارغليوث: «فإذا كان المقصود بالشعر نفس المعنى المفهوم منه في الأدب اللاحق على القرآن، فسنكون في مواجهة معضلة حقيقية، إن محمداً الذي لم يكن يعلم الشعر، كان يدرك أن ما يعرض إليه لم يكن شعراً، بينما أهل مكة، الذين يفترض أنهم كانوا يعرفون الشعر حين يسمعونه أو يرونه، ظنوا بأن هذا العرض كان شعراً».

فالقرآن -بهذا الفهم المارغليوثي- ينتمى لفن الشعر. وجهل محمد صلى الله عليه وسلم، بالشعر يؤخذ حجة عليه لا له، فطالماً أنه لا يعرف فن الشعر، فبالتالي لا يستطيع أن يقنعنا أن القرآن ليس بشعر. إن القرآن -في مفهوم مارغليوث- لا يلتزم بضوابط الشعر التقليدية التي أهمها القافية، وذلك لأن الشعر الجاهلي الحقيقي -الذي هو سجع الكلمات- لم يكن يلتزم القافية، وإنما يلتزم روح الشعر عموماً. ونحن -يقول مارغليوث- أجدر بأن نعرف الشاعر من مادة أقواله لا من القوالب والشرائط الفنية المعروفة لفن الشعر اليوم، فسجع الكهان شعر، والقرآن شعر، والشعر العربي القديم -وبما فيه ذلك القسم المنحول والمنسوب إلى الشعر الجاهلي- هو شعر أيضاً، وليس من دليل على أن القرآن شعر من أن الجاهليين أنفسهم شهدوا له بأنه شعر».

هذه هي أطروحة مارغليوث التي طورها طه حسين وعمل على إثباتها بأدلة جديدة، طوّع لتمحُّلها كامل تجربته المحيطة أو شبه المحيطة بالشعر العربي، الذي كان يعرفه ويتذوقه بأفضل مما أتيح لأيٍّ من أساتذته العجم الأوروبيين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير