فالاقدام مطلوب والحياة الذليلة مرفوضة , وفرار المحارب من واجبه أو من لقاء أعدائه هو موت له وعار عليه بل سبب لابتعاد الناس عنه واحتقاره , ومن الذي لايستعيد بطولات عنترة وشجاعة "حامي الظعينة" وفتوة عمرو بن معدي بل لعل هذه الشجاعة العظيمة جرت مجرى الاساطير التي يتداولها الناس في سهراتهم ومجالسهم الى يومنا هذا. قال احدهم:
ان تبتدر غاية يوما لمكرمة ...... تلق السوابق فينا والمصلينا
انا لمن معشر افنى اوائلنا ....... قيل الكماة الا اين المحامونا
وقال الآخر:
قوم اذا الشر أبدى ناجذيه لهم ..... طاروا اليه زرافات ووحدانا
الى جانب تلك القيم الايجابية التي ذكرنا بعضا منها اعلاه نجد ان هناك ايضا قيما سلبية في حالة تنازع دائم مع القيم الايجابية من الناحية الانسانية فالبدوي حتى لو قبل مبدأ الثأر الا انه كان في وعيه الباطن يرفض الظلم وحتى لو قبل شرب الخمر الا انه كان يذم السكر والعربدة.
الثأر قيمة من القيم السلبية التي سادت في المجتمع الجاهلي وهو نظام بدوي متعارف عليه فلم تكن ثمة سلطة او حكومة تحول بين الموتور والواتر أي ليس ثمة قانون يقتص من الجاني اذا ارتكب جريمة فلا يجد صاحب الثأر امامه من أن يقتص بنفسه من المجرم وهذه المهمة صعبة فاذا احجم عن المطالبة بثأره عده الناس جبانا رعديدا واذا اقدم على ذلك وجد امامه قبيلة الجاني بكاملها تدافع عنه ولذلك شكلت المطالبة بالثأر لونا من ألوان الشجاعة الخاصة رغم المآخذ عليها فالضحايا التي ستسقط قد لاتكون لها علاقة بالامر كله , واذا تطور الموقف وتعقد قد يتحول الى حرب بين القبائل وتسفح لاجل ذلك الدماء , وفي حرب البسوس نجد كيف ترك المهلهل النساء والخمر والطيب لكي يتفرغ لطلب ثأر اخيه كليب وصمم ان لايخلع درعه وسيفه لايستحم الى ان يدرك ثأره ويبيد قبيلة بكر:
ولست بخالع درعي وسيفي ..... الى ان يخلع الليل النهار
والا ان تبيد سراة بكر ...... فلايبقى لها ابداً اثار
وكانت نتيجة ذلك الحرب الشهيرة التي استمرت اربعين عاما ومات فيها خلق كثير.
واقترنت فكرة الثأر بوهم سيطر عليهم مفاده ان طائراً يخرج من رأس القتيل يسمى الهامة يصيح دائماً اسقوني ... اسقوني ولايكف عن الصياح الى ان يقتل القاتل ويثأر منه , وبلغ من ايمانهم بالثأر ان عدوه شرفا ومنعوا نساءهم من البكاء على القتيل الى ان يؤخذ بثأره.
ومن قيمهم السلبية ايضاً الاندفاع وراء الملذات من خمر وربيع ونساء لانهم كانوا يعيشون في بيئة اجتماعية الفراغ فيها اكثر من العمل وطرق التسلية ومرافق اللهو قليلة ولذلك اقبلوا على قتل الفراغ بكل مايبعث في نفوسهم النشوة والطرب حتى كان احدهم اذا سكر ظن انه ملك او سلطان الخورنق والسدير:
فاذا سكرت فانني .... رب الخورنق والسدير
واذا صحوت فانني .... رب الشويهة والبعير
وكان اقبالهم على الخمر والملذات الاخرى من نساء وركوب الخيل نوعا من الهروب الاجتماعي من فراغهم القاتل حتى شغفوا بها واستهانوا بالموت امامها:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وحقك لم احفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة .... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري اذا نادى المضاف محنباً ... كسيد الغضى ذي السورة المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ..... ببهكنة تحت الطراف المعمد
وكان منهم حكماء عرفوا مساوئ الانغماس في الملذات ومايتركه ذلك على شخصية الرجل وكرامته فقال احدهم:
وقالت لي هلم الى التصابي ..... فقلت عففت عما تعلمينا
وحرمت الخمور علي حتى .... اكون بقعر ملحود دفينا
ومن المظاهر السيئة التي جرت مجرى القيم الاندفاع الاعمى لنصرة القبيلة سواء أكانت على خطأ أم على صواب لأن القبيلة تشكل الملاذ الحامي للبدوي يلجأ اليها اذا هرب من خطر داهم ويحتمي فيها اذا جارت عليه ظروف العيش وكان الارتباط القبلي يفرض عليهم التكاتف في وجه عدو القبيلة حتى لو كانوا ظالمين له متجنين عليه. قال دريد:
امرتهم امري بمنعرج اللوى ..... فلم يستبينوا الرشد الا ضحى الغد
وهل انا الا من غزية ان غوت .... غويت وان ترشد غزية ارشد
أما البخل فهو عند المجتمع القبلي نقيصة مابعدها نقيصة فالبخيل يكره الضيف ويمسك عن مساعدة الناس ويهرب من مواقف المروءة حفاظا على ماله او متاعه واسمع كيف تبرأ احدهم من البخل:
ألم تعلمي ياعمرك الله انني ..... كريم على حين الكرام قليل
واني لاأخزى اذا قيل مقتر ..... جواد واخزى ان يقال بخيل
فهو اذا وصف بالتقتير وهو كريم خير له ان يوصف بالبخل الذي يخزيه ويشوه سمعته.
ان القيم تتغير بتغير العصور وتتقلب بتقلبات الازمنة ولكن القيم الجميلة البدوية التي خلفها لنا اجدادنا منذ آلاف السنين تحدت الزمان وبقيت حية عظيمة أما القيم الاخرى السلبية فقد استمر الناس في ذمها والابتعاد عن صاحبها الى يومنا هذا.
ـ[معالي]ــــــــ[27 - 09 - 2007, 08:52 ص]ـ
كلام رائع، أرفعه لقراءة أخرى تستصحب فضل النظر والإمعان.
شكر الله لكم، د. منذر.
¥