اعتمدت النقائض في صورتها الكاملة على عناصر أساسية في لغة الشعراء، منها النَّسَب الذي أصبح في بعض الظروف وعند بعض الناس من المغامز التي يُهاجِم بها الشعراء خصومهم حين يتركون أصولهم إلى غيرها، أو يدَّعون نسبًا ليس لهم. وقد كانت المناقضة تتخذ من النسب مادة للتحقير أو التشكيك أو نفي الشاعر عن قومه أو عدّه في رتبة وضيعة، وكذلك كان الفخر بالأنساب وبمكانة الشاعر من قومه وقرابته من أهل الذكر والبأس والمعروف أساسًا، تدور حوله النقائض سلبًا أو إيجابًا. فاعتمد الشعراء المناقضون على مادة النسب وجعلوها إحدى ركائز هجائهم على أعدائهم وفخرهم بأنفسهم. ومن أسباب ذلك أن المجتمع العربي على عصر بني أمية رجع مرة أخرى إلى العصبية القبلية التي كان عصر النبوة قد أحل محلها العصبية الدينية.
ومنها أيضًا أيام العرب التي اعتمدت النقائض عليها في الجاهلية والإسلام، فكان الشعراء يتَّخذون منها موضوعًا للهجاء ويتحاورون فيه، كما صور جزء من النقائض الحياة الاجتماعية أحسن تصوير، ووصف ماجرت عليه أوضاع الناس، ومنها العادات المرعية والأعراف والتقاليد التي يحافظ عليها العربي أشد المحافظة , فكانت السيادة والنجدة والكرم، وكان الحلم والوفاء والحزم من الفضائل التي يتجاذبها المتناقضون، فيدعي الشاعر لنفسه ولقومه الفضل في ذلك. وقد أصبحت النقائض سجلاً أُحصيت فيه أيام العرب ومآثرها وعاداتها وتقاليدها في الجاهلية وفي الإسلام.
ومن الواضح ان جريرا والفرزدق درسا تاريخ القبائل العربية في الجاهلية والاسلام وهذا ما يعد وثائق تاريخية طريفة ولم يكن الشاعر يدرس تاريخ القبائل التي يدافع عنها فحسب وانما كان يدرس ايضا تاريخ القبائل التي يهجوها ليقف على الايام التي انهزمت فيها حتى يستطيع ان يبدع في هجائه وسرعان ما وصلت النقائض الى العصر الاموي ليس في مجال المدح والهجاء فحسب وانما امتدت الى النسب والغزل والفخر والولاء وغيره.
بدا الهجاء بين جرير والفرزدق حين استعان احد الشعراء من قبيلة الفرزدق به للرد على جرير فقام الفرزدق بالانتصار لصاحبه فرد عليه جرير واشتعلت بينهما نار هجاء لم تنطفئ الا بموت الفرزدق وقد كان الهجاء بينهما يركز على ذم القبيلة وذم النسب وتحقير صفات الخصم , ومن قول الفرزدق في جرير:
ووجدت قومك فقّؤوا من لؤمهم .... عينيك عند مكارم الاقوام
صغرت دلاؤهم فما ملأوا بها ..... حوضا ولاشهدوا عراك زحام
فأجابه جرير:
مهلا فرزدق ان قومك فيهم ..... خور القلوب وخفة الاحلام
الظاعنون على العمى بجميعهم .... والنازلون بشر دار مقام
اما الاخطل فقد ارسل اليه احد اسياد قبيلة مجاشع (قبيلة الفرزدق) بألف درهم وكسوة وبغلة لكي يدعم الفرزدق في حربه ضد جرير فقال قصيدة يهجو جريرا ويفضل الفرزدق عليه منها:
اجرير انك والذي تسمو له .... كأسيفة فخرت بحدج حصان
تاج الملوك وفخرهم في دارم .... ايام يربوع مع الرعيان
فأجابه جرير:
ياذا الغباوة ان بشراً قد قضى .... الا تجوز حكومة النشوان
فعوا الحكومة لستم من أهلها .... ان الحكومة في بني شيبان
واتصل الهجاء بين الاخطل وجرير وتناقلت الناس اشعارهما.
ولابد من ملاحظة الدوافع القبلية والشخصية لهذا التهاجي فالفرزدق ميلا لم يهج دفاعا عن القبيلة فقط بل لانه اراد منافسة جرير على زعامة تميم الشعرية , كما ان الاخطل سخط ايضا على جرير لانه مدح قبيلة قيس المعادية لبنى تغلب رهط الاخطل كما خاف الاخطل ايضا ان يزاحمه جرير على مكانته في بني امية.
واستمر الحقد متصلا فعندما مات الاخطل في حياة جرير قال فيه:
زار القبور ابو مالك .... فكان ألأم زوارها
كما هجا الفرزدق بعد موته فقال:
مات الفرزدق بعدما جدّعته .... ليت الفرزدق كان عاش طويلا
ولما لامه الناس في ذلك رثاه ببيتين من الشعر , ولم يلبث بعده ان مات بعد بضعة اشهر.
وفي الختام نقول ان النقائض لم تكن تمثل فقط ثأرا شخصيا بل كانت مجالا للمنافسة بين الشعراء طلبا للجوائز وشجعها الخلفاء لصرف الانتباه عن مظالمهم ورغب فيها الناس لما وجدوه فيها من تسلية وترويح ولكن خصائصها الفنية وتأريخها لماضي القبائل وايام العرب المشهورة وقوة اسلوبها ومبالغتها في الخيال جعلها تقدم للغة العربية ثروة ادبية عظيمة وسجلا تاريخيا لكثير من الوقائع والعادات في العصر الاموي وما قبله , أما مايعيب النقائض فهو دعوتها الى العصبية القبلية وخروجها على روح الاسلام السمحة التي تنهى عن التفاخر بالاحساب والهجاء الفاحش.
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[27 - 09 - 2007, 05:37 ص]ـ
بارك الله فيك د. الزاوي على هذا التطواف الماتع حول هذا الجانب الفني من فنون الشعر وجزاك الله كل خير لجهودك الخيرة.