تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مكة فقال: يا بني سليم، إني رأيت أمراً، وسيكون خيراً، رأيت بني عبد المطلب كأن قدودهم الرماح الردينية، وكأن وجوههم بدور الدجنة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأن منطقهم مطر الوبل على المحل؛ وإن الله إذا أراد ثمراً غرس له غرساً، وإن أولئك غرس الله؛ فترقبوا ثمرته وتوكفوا غيثه، وتفيئوا ظلاله، واستبشروا بنعمة الله عليكم به. ولقد قرع العباس بهذا الكلام باب الغيب، وشعر بالمستور، وأحس بالخافي، واطلع عقله على المستتر، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع، والحادث المتوقع؛ وهذا شيء فاشٍ في العرب، لطول وحدتها، وصفاء فكرتها، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها، وصحة فطرتها، وخلاء ذرعها، واتقاد طبعها، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقاتها، ومآخذها البديعة في استعاراتها، وغرائب تصرفها في اختصاراتها، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها، وفنون تبحبحها في أكناف مقاصدها، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها؛ وهذا وأضعافه مسلم لهم، وموفر عليهم، ومعروفٌ فيهم ومنسوبٌ إليهم، مع الشجاعة والنجدة والذمام والضيافة والفطنة والخطابة والحمية والأنفة والحفاظ والوفاء، والبذل والسخاء، والتهالك في حب الثناء والنكل الشديد عن الذم والهجاء؛ إلى غير ذلك مما خصت به في جاهليتها قبل الإسلام، مما لا سبيل إلى دفعه وجحوده، والبهت فيه، والمكابرة عليه؛ وقد سمعنا لغاتٍ كثيرةً - وإن لم نستوعبها - من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربية، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها؛ وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول، وصحة هذا الحكم، فالحظ عرض اللغات الذي هو بين أشدها تلابساً وتداخلاً، وترادفاً وتعاظلاً وتعسراً وتعوصاً، وإلى ما بعدها مما هو أسلس حروفاً، وأرق لفظاً، وأخف اسماً؛ وألطف أوزاناً، وأحضر عياناً؛ وأحلى مخرجاً وأجلى منهجاً وأعلى مدرجاً؛ وأعدل عدلاً، وأوضح فضلاً، وأصح وصلاً إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة، ثم تنتهي إلى العربية، فإنك تحكم بأن المبدأ الذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض، سرى قليلاً قليلاً حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض.

وهذا شيء يجده كل من كان صحيح البنية، بريئاً من الآفة، متنزهاً عن الهوى والعصبية، محباً للإنصاف في الخصومة، متحرياً للحق في الحكومة، غير مسترق بالتقليد، ولا مخدوع بالإلف، ولا مسخر بالعادة، وإني لأعجب كثيراً ممن يرجع إلى فضل واسع، وعلمٍ جامع؛ وعقل سديد، وأدب كثير، إذا أبى هذا الذي وصفته، وأنكر ما ذكرته؛ وأعجب أيضاً فضل عجب من الجيهاني في كتابه وهو يسب العرب، ويتناول أعراضها ويحط من أقدارها ويحط من أقدارها، ويقول: يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات ويتعاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير. قال: ولهذا كان كسرى يسمى ملك العرب: سكان شاه، أي ملك الكلاب. قال: وهذا لشدة شبههم بالكلاب وجرائها، والذئاب وأطلائها وكلاماً كثيراً من هذا الصوب أرفع قدره عن مثله، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله. أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي، كل كسرى كان في الفرس، وكل قيصر كان في الروم، وكل بلهور كان بالهند، وكل يقفور كان بخراسان، وكل خاقان كان بالترك وكل أخشاد كان بفرغانة وكل صبهبذ كان من أسكنان وأردوان ما كانوا يعدون هذه الأحوال لأن من جاع أكل ما وجد، وطعم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حباً للحاية، وطلباً للبقاء، وجزعاً من الموت، وهرباً من الفناء. أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبر وبار وسفوح طيبة، ورمل يبرين وساحة هبير، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان؛ وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر، وما أسن في تلك الوهدات? أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسمل من الثياب وما هو دونه وأخشن? بلى والله، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال، وكل ما حمض ومر، وخبث وضر، هذا جهلٌ من قائله، وحيفٌ من منتحله؛ على أن العرب - رحمك الله - أحسن الناس حالاً وعيشاً إذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير