تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

جادتهم السماء، وصدقتهم الأنواء؛ وازدانت الأرض، فهدلت الثمار، واطردت الأودية، وكثر اللبن والأقط والجبن واللحم والرطب والتمر والقمح، وقامت لهم الأسواق، وطابت المرابع وفشا الخصب، وتوانى النتاج، واتصلت الميرة، وصدق المصاب وأرفغ المنتجع، وتلاقت القبائل على المحاضر، وتقاولوا وتضايفوا، وتعاقدوا وتعاهدوا، وتزاوروا وتناشدوا؛ وعقدوا الذمم، ونطقوا بالحكم؛ وقروا الرطاق ووصلوا العفاة، وزودوا السابلة، وأرشدوا الضلال، وقاموا بالحمالات وفكوا الأسرى، وتداعوا الجفلى، وتعافوا النقرى، وتنافسوا في أفعال المعروف؛ هذا وهم في مساقط رءوسهم، بين جبالهم ورمالهم، ومناشىء آبائهم وأجدادهم، وموالد أهلهم وأولادهم، على جاهليتهم الأولى والثانية، وقد رأيت حين هبت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملة، وعزت ملتهم بالنبوة، وغلبت نبوتهم بالشريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية، كيف تحولت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر، وهذه النوادر من المآثر عفواً، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهواً رهواً؛ وهكذا يكون كل شيء تولاه الله بتوفيقه، وساقه إلى أهله بتأييده، وحلي مستحقيه باختياره؛ ولا غالب لأمر الله، ولا مبدل لحكم الله، ولذلك قال الله تعالى: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قديرٌ". ولله في خلقه أسرار، تتصرف بها دوائر الليل والنهار، وتذللها مجاري الأقدار، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار.

فليستحي الجيهان بعد هذا البيان والكشف والإيضاح، بالإنصاف من القذع والسفه اللذين حشا بهما كتابه، وليرفع نفسه عما يشين العقل، ولا تقبله حكام العدل؛ وصاحب العلم الرصين، والأدب المكين؛ لا يسلط خصمة على عرضه بلسانه، ولا يستدعي مر الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره؛ فإن العصبية في الحق ربما خذلت صاحبها وأسلمته؛ وأبدت عورته، واجتلبت مساءته؛ فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمة من الأمم جاحدين، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمة من الأمم جاهلين.

فإن جاحد الحق يدل من نفسه على مهانة، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور؛ فهذا هذا؛ وفي الجملة المسلمة، والدعوة المرسلة، أن أهل البر وأصحاب الصحارى الذين وطأؤهم الأرض، وغطاؤهم السماء، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول، ومن الترفه والرفاهية أبعد، وبالحول والقوة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع، وعلى المصالح والمنافع أوقع، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف؛ وهذا للدواعي الظاهرة، والحاجات الضرورية، والعلائق الحاضة على الألفة والمودة، والشدائد المؤذية، والعوارض اللازبة؛ ولهذا يقال: عيب الغني أنه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة؛ وهذا معنىً كريم، لا يقر به إلا كل نقاب عليم.

وقال الجيهاني أيضاً: مما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا، أن الله أفاض علينا النعم ووسع لدينا القسم وبوأنا الجنان والأرياف، ونعمنا وأترفنا. ولم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم وحرمهم، وجمعهم في جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاحٍ؛ وبهذا يعلم أن المخصوص بالنعمة والمقصود بالكرامة فوق المقصود بالإهانة.

فأطال هذا الباب بما ظن أنه قد ظفر بشيء لا جواب عنه، ولا مقابل له؛ ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلى له، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها؛ وقد دل كلامه على أنه جاهل بالنعمة، غافلٌ عما هو سر الحكمة.

وعنده أن الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحواري وركب الجوادي، وتقلب على الحشية، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسد الأرض، وقنع باليسير ورخي العيش، وسلا عن الفضول؛ هذا خطأ من الرأي، ومردود من الحكم، عند الله تعالى أولاً، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا، وأصحاب التقى والنهى؛ وعلى طريقته أيضاً أن البصير أشرف من الأعمى، والغني أفضل من الفقير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير