أحس الشعراء ولاسيما في أواخر هذا العصر ألوانا من القلق والضيق، فقد قلت العناية بهم، وفترت الرغبة في تشجيعهم، واضطرب الأمن بكثرة الثورات وشدة العسف، فضعف الشعور بالاستقرار، ولهذا كله نظموا في الشكوى.
قال أبو الفتح البستي:
الدهر خداعة خلوب **** وصفوه بالقذى مثوب
وأكثر الناس فاعتزلهم **** قوالب مالها قلوب
ومع الفتن التي أوقع فيها بنو أيوب بالفاطميين يقول عمارة اليمني:
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة **** في نسل آل أمير المؤمنين علي؟
لهفى ولهف بني الآمال قاطبة **** على فجيعتنا في أكرم الدولِ
ومع أخريات هذا العصر، تخلخلت ثقافة الشعراء، وانقبضت يد التشجيع عنهم، فاتجهوا إلى تناول موضوعات تافهة، يخلصون بها من ضيقهم، ويدربون قدرهم البديعية منها: الألغاز، والغزل المتكلف، ووصف الأشياء التافهة من سكين، ومروحة، موقد، والأطعمة وأنواع الحلوى.
معاني الشعر وأخيلته
في الفترة الأولى من هذا العصر عاشت نخبة الشعراء الذين انتفعوا بالنهضة العقلية التي عني العصر العباسي الأول بترجمة كثر من مصادرها، وبذل وقتا وجهدا في دراستها وتمثلها.
وقد ضم هؤلاء الشعراء ما استفادوه من هذه المصادر إلى ثقافتهم الأدبية واللغوية، وبدا هذا المستوى واضحا في معاني شعرهم فتميزت بالعمق، والأصالة والجدة، وسايرت جدية الأغراض والموضوعات التي تناولوها، ورفدت ما أثاره التنافس بينهم.
وقد اهتم نقاد الأدب بتتبع معاني المتنبي الجديدة، وأفكاره الحكيمة التي نظر فيها إلى ما انتشر في عصره من الآراء والدراسات الفلسفية، واستقصاء استعاراته وتشبيهاته المبتكرة، فجمعوا له من ذلك كله حصادا كثيرا، وعته كتب النقد والبلاغة.
ومثل ذلك وجدناه لأبي العلاء، الذي أنشأ ديوانا ضخما سماه اللزوميات، وضمنه حكمته وفلسفته وآراءه.
وحين خفت هذا السراج القوي في الفترة الأخيرة من هذا العصر، ستر الشعراء فقرهم المعنوي بالسرقة من السابقين، وتكرار معانيهم وصورهم بأساليب أخرى، وبتكلف البديع والإغراق في المبالغة، لعل بريقهما يصرف عن خواء شعرهم وفقره.
ألفاظ الشعر وأسلوبه
ظلت للعبارة الشعرية طوال الفترة الأولى قوتها وبلاغتها: فاللفظ متخير، والنسج ملتحم، والجملة الشعرية إيجازا وإطنابا تساير المعنى وتمنحه الوضوح.
ثم أخذت مع الزمن تؤثر الرقة والخفة والدماثة، حتى بلغت على يد البهاء زهير الغاية من ذلك كله.
أثر الإقليمية في شعر العصر العباسي الثاني
العصر العباسي الثاني يسمى عصر الأوطان السياسية، لاستقلال كثير من الإمارات والدويلات فيه عن الخلافة العباسية ببغداد استقلالا تاما أو داخليا.
وبظهور هذه الأوطان ظهرت الآداب القومية، فما بد من أن تصطبغ الآداب العربية في كل منها بصبغة موضعية متأثرة بطبيعة البيئة وأنظمة الحكم، ومظاهر النمو الاجتماعي، والعقلي التي تسود الإقليم.
وبذلك استفاد الأدب العربي في كل منها ملامح إقليمية، دعتنا إلى أن نسمي هذا العصر أيضا عصر الآداب القومية.
ففي الشام نبض الشعر في أوائل هذا العصر بالقوة والفخامة، وتأثر بالمعارك وبالمجد العربي، ومناقب الشخصية العربية، وبالمستوى الثقافي العالي، وأحسسنا ذلك في إنتاج أعلامه: المتنبي، وأبي فراس، وأبي العلاء، والسرى الرفاء، وكشاجم، في الوصف والحماسة والحكمة والشكوى.
وفي العراق ترجم الشعر أعماق الخلاف بين العباسيين والعلويين، وعكس اعتزاز أبناء الأمم المفتوحة بأنسابهم، فهذا الشريف الرضى نقيب العلويين يقول:
مهلا أمير المؤمنين فإننا **** في دوحة العباء لا نتفرقُ
ما بيننا يوم الفخار تفاوت **** أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلاقة ميزتك فإنني **** أنا عاطل منها وأنت مطوق
وهذا مهيار الديلمي يفخر بانتمائه للفرس:
قومي استولوا على الدهر فتى **** ومشوا فوق رؤوس الحقب
وأبي كسرى علا إيوانه **** أين في الناس أب مثل أبي
وقد اتسع أيضا للفلسفة نتمثلها جلية في شعر ابن سينا والرازي.
وفي مصر طالعنا شعر يؤثر الرقة والانسجام ويصور النقاء والصفاء، وتشيع فيه الفكاهة وألوان التحسين، وتلك خصائص البيئة والنفس المصرية، ثم هو يسجل الأحداث ويعيش فيها، وما أكثرها سياسية وحربية واجتماعية.
وإلى جانب هذا الشعر اللين الدمث المعايش للأحداث والصلات الاجتماعية، وأحوال الطبيعة، ظهر شعر صوفي يمثله ابن الفارض، كانت فيه الرقة والانسجام والجنوح إلى البديع إطارا للفكر الديني المتجرد الزاهد، المحب للذات الإلهية، الغاني فيها.
وبعد فإن هذه الملامح التي أضفت على الآداب في العصر العباسي طابع الإقليمية لم تحدث بينها تباعد تضيق به الأذواق، أو تستشعر هي معه الغربة والاختلاف، ذلك أن الروح العربي والشخصية العربية بقيتا من وراء هذه الآداب عاملين من عوامل التقريب.
على أن حكم صلاح الدين وحد إقليمي مصر والشام سياسيا، ومصيريا في مواجهة الصليبيين، وقام شعرا الإقليمين بدورهما طوال هذه المحنة يمثلون من خلال وحدة الموضوع والفكر والهدف، سياقا فنيا لا تكاد تبدو فيه فروق إقليمية.