وروي عن مغيرة بن إبراهيم قال بكة موضع البيت وموضع القرية مكة وقيل إنما سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضاَ، وعن يحيى بن أبي أنيسة قال بكة موضع البيت ومكة هو الحرم كله، وقاد زيد بن أسلم بكة الكعبة والمسجد ومكة ذو طوى وهو بطن الوادي الذي ذكره اللهَ تعالى في سورة الفتح ولها أسماء في ذلك وهي مكة وبكة والنساسة وأمُ رُحم وأم القرى ومعاد والحاطمة لأنها تحطم من استخف بها وسمي البيت العتيق لانه عتق من الجبابرة والراس لأنها مثل رأس الإنسان والحرم وصلاَح والبلد الأمين والعرش والقادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر والمقدسة والناسة والباسة بالباء الموحدة لأنها تبس أي تحطم الملحدين وقيل تخرجهم وكُوثى باسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار والمذهَب في قول بشر بن أبي خازم:
وما ضم جياد المصلى أو مذهَبُ
وسماها اللهَ تعالى أم القرى فقال: "لتنذر أم القرى ومن حولها" الأنعام: 92، وسماها اللهَ تعالى البلد الأمين في قوله تعالى: "والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين " التين: 1، 3، وقال تعالى:" ألا أقسم بها البلد وأنت حل بهذا البلد" البلد: ا، 2، وقال تعالى: "وليطوفوا بالبيت العتيق " الحج: 29، وقال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" المائدة: 97، وقال تعالى: على لسان إبراهيم عليه السلام " رب اجعل هذا البلد اَمناً واجنبني وبنىِ أن نعبد الأصنام" إبراهيم: 35، وقال تعالى أيضا على لسان إبراهيم عليه السلام "ربنا إني لسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " إبراهيم: 37، الآية ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وقف على الحزورة قال إني لأعلم أنك أحب البلاد إلي وأنك أحب أرض اللهَ إلى الله ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت، وقالت عائشة رضي الله عنها لولا الهجرة لسكنتُ مكة فإني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة، وقال ابن أم مكتوم وهو آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف:
يا حبذا مكة من وادي= أرض بها أهلي وعُوادي
أرض بها ترسخ أوتادي = أرض بها أمني بلا هادي
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هو وأبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىء مصبح في أهله = والموت أدنى من شراكِ نعلِهِ
وكان بلال إذا انقشعت عنه رفع عقيرته، وقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة= بفخْ وعندي إذخر وجليلُ
وهل أردنْ يوماَ مياه مَجنْة = وهل يَبدوَنْ لي شامةٌ وطفيلُ
اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمَية بن خلف كما أخرجونا من مكة ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على جمرة العقبة وقال واللهَ إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إليَ ولو لم اخرَج ما خرجت إنها لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد كان بعدي وما أحلت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام لا يعضد شجرها ولا يحتش خلالها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد فقال رجل يا رسول اللهَ إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائتي عام، ووجد على حجر فيها كتاب فيه أنا الله رب بكة الحرام وضعتها يوم وضعتُ الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاءَ لا تزال أخشباها مبارك لأهلها في الحمإ والماء، ومن فضائله أنه من دخله كان آمناً ومن أحدث في غيره من البلدان حدثاً ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود ومن أحدث فيه حدثاً أخذ بحدثه وقوله تعالى: "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً" القصص: 59 وقوله: "لتنذر أم القرى ومن حولها " الأنعام: 92، دليل على فضلها على سائر البلاد، ومن شرفها أنها كانت لقاحاً لا تدين لدين الملوك ولم يؤد أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحُمى من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضاً وشرفاً عندهم عظيماً وكان أهله آمنين يَغزون الناس ولا يُغزون ويسبون ولا يُسبَون ولم تسبَ قرَشية قط فتُوطأ قهراَ ولا يجال عليها السهام، وقد ذكر عزهم وفضلهم الشعراء، فقال بعضهم:
أبوا عين الملوك فهم لَقاح = إذا هيجوا إلى حرب أجابوا
وقال الزِبرِقان بن بدر لرجل من بني عوف كان قد هَجا أبا جهل وتناوَلَ قريشأ:
أتدري مَن هَجوت أبا حبيب = سليلَ خضارم سكنوا البطاحا
أزادَ الركبِ تذكر أم هشاماً= وبيت الله والبلد اللقاحا
وقال حرب بن أمَية ودعا الحضرمي إلى نزول مكة وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاءُ حرب بن أمية وأراد الحضرمي أن ينزل خارجاً من الحرم وكان يكنى أبا مطر فقال حرب:
أبا مطر هَلم إلى الصلاح = فيكفيك الندامَى من قريش
وتنزل بلدةَ عزت قديماً = وتأمن أن يزورك رب جَيش
فتأمن وَسطهم وتعيش فيهم= أبا مطر هدِيتَ بخير عَيش
ألا ترى كيف يُؤمنه إذا كان بمكة ومما زاد في فضلها وفضل أهلها ومباينتهم العرب أنهم كانوا حلفاء. متألفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم عليه السلام ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب وكانوا يختنون أولادهم ويحجون البيت ويقيمون المناسك ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة وتبرأوا من الهربذة وتباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت غيرة وبعداً من المجوسية ونزل القرآن بتوكيد صنيعهم وحسن اختيارهم وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثاً ولذلك قال عبد اللهَ بن عباس وقد سأله رجل على طلاق العرب فقال كان الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم هو أحق بها فإن طلقها اثنتين فهو أحق بها أيضاَ فإن طلقها ثلاثاً فلا سبيل له إليها، ولذلك قال الأعشَى:
أيا جارتي بِيني فإنكِ طالقة = كفاك أمورُ الناس غادٍ وطارقة
وبِيني فقد فارقتِ غير ذميمة = وموموقة منا كما أنت وامقة
وبِيني فإن البَينَ خير من العَصا = وأن لا تري لي فوق رأسك بارقة
يتبع إن شاء الله،،،
¥