والذي يخطر ببال العبد الفقير -أي الآلوسي- أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمَّنه وأشار إليه؛ فلما كان الاعتراض الأول بناء على أن لام {لِتُغْرِقَ} [الآية:71] للتعليل متضمناً إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السلام، وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه -بناء على ما اختاره المحققون من أن {نُكْراً} [الآية:74] أبلغ من {إمْراً} [الآية:71]- ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السلام إليها، وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأنْ يُقَابَل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السلام وأنكره.
ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعتُرض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمَن من وقوع خطب جسيم؛ فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظِّم نفسه أو المتكلم ومعه غيره؛ فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيماً لأمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد، وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي.
ولما كان الاعتراض الثالث هينا جداً؛ حيث كان بلفظ لا تصلُّب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه، ومع هذا لم يكن على نفس الفعل؛ بل على عدم أخذ الأجرة عليه للاستعانة بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن؛ فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه -استقلالاً أو مشاركةً- شيئاً ما من الأفعال؛ فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه، ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السلام، ولا ينافي ذلك ترك النكير والعتاب؛ لأنه متعلق بمجموع ما كان أولاً من ذلك الجناب، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب، وهو سبحانه الموفق للصواب.
هامش:
(*) ثبت في الصحيحين أن العبد الصالح الذي جاء ذكره في هذه القصة هو الخضر عليه السلام. انظر: صحيح البخاري، بَاب (مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى فِي البَحْرِ إِلَى الخَضِرِ) وبَاب (حَدِيثِ الخَضِرِ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلام)، وانظر أيضاً: صحيح مسلم، بَاب (مِنْ فَضَائِلِ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلام).
ـ[زهير هاشم ريالات]ــــــــ[28 Jul 2007, 08:58 ص]ـ
{وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه، فترك العمل به واتَّبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً!
ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض؛ يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً، ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته. ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ؛ نبحه وحمل عليه؛ كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ؛ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ -مع وفور علمه- بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ؛ وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله -مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه- إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة؛ فهو شديد اللهف عليها. ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: "الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث؛ فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ". قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها؛ فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها، وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء؛ فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً؛ يلهث قائماً وقاعداً، وماشياً وواقفاً؛ وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث. فهكذا مشبَّهه؛ شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث؛ فإنْ حَمَلْتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: "ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به". وقال ابن عباس: "إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ؛ كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طُرد لهث". وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ؛ كالكلب يلهث طرداً وتركاً". وقال أبومحمد بن قتيبة: "كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب؛ فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة، وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش؛ فَضَرَبَهُ الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ؛ كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث، وإنْ تركْتَه على حاله لهث. ونظيره قوله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ} [الأعراف:193].
(التفسير القيّم لابن القيّم)
¥