[سؤال للعلماء والأساتذة في الملتقى]
ـ[محمد عمر الضرير]ــــــــ[17 Sep 2007, 09:55 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله، وشهر مبارك، وأعان الله الجميع فيه لما يحبه ويرضاه، وبعد:
أشكل علي فهم معنى ورد على لسان ابن عباس ضمن مسائل ابن الأزرق التي لم يذكرها السيوطي وأشار إليها في إتقانه بأنه حذف منها يسيرا، وقد وجدت في نفس المخطوطة التي اعتمد عليها السيوطي قول ابن الأزرق: يا ابن عباس أخبرني عن قول اللّه عزوجل: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها).
قال: من كل أحد، وفيها كلمة عربية يا ابن الازرق لعلك لا تحتملها، قال: بلى يا ابن عباس فاخبرني بها، قال: نعم "أخفيها من علمي" قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد.
فما المقصود بـ"أخفيها من علمي"؟
شاكرا لأساتذتنا العلماء في الملتقى جميل اهتمامهم بالإجابة، وجزا الله الجميع خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[19 Sep 2007, 08:22 ص]ـ
حياكم الله أخي الكريم، وأسأل الله لكم التوفيق ولجميع الزملاء.
معنى قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (أكاد أُُخفيها) أنها بمعنى: (أخفيها من علمي). أي أخفيها حتى عن نفسي، وهذا قد جاء في روايات أخرى عن ابن عباس تبين الكلمة التي سألت عنها، وهذا مبالغة في شدة كتمان خبر الساعة عن كل أحد حتى عن الملائكة المقربين عليهم السلام. وهذا القول هو قول معظم مفسري السلف رحمهم الله، قال الطبري: (بمعنى: أكاد أخفيها من نفسي، لئلا يطلع عليها أحد، وبذلك جاء تأويل أكثر أهل العلم.) ومنهم ابن عباس، ومجاهد بن جبر، وقتادة بن دعامة السدوسي وغيرهم.
وقد جرى الكلام في هذه الآية على عادة العرب في خطابها، وهذا القول هو الذي اختاره ورجحه الإمام الطبري، حيث قال: (والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفيها من نفسي، لأن تأويل أهل التأويل بذلك جاء، والذي ذُكر عن سعيد بن جبير من قراءة ذلك بفتح الألف قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها قراءة الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به نقلا مستفيضا).
وسبب قول ابن عباس لابن الأزرق: (وفيها كلمة عربية يا ابن الازرق لعلك لا تحتملها، قال: بلى يا ابن عباس فاخبرني بها)
فذلك لأن بعض الناس قد يستغرب أن يقال أنه يخفيها حتى من نفسه، فكيف يكون ذلك مع علمه بها؟
وقد بين الطبري وجه هذا القول فقال:
(فإن قال قائل: ولم وجهت تأويل قوله (أَكَادُ أُخْفِيهَا) بضم الألف إلى معنى: أكاد أخفيها من نفسي، دون توجيهه إلى معنى: أكاد أظهرها، وقد علمت أن للإخفاء في كلام العرب وجهين:
أحدهما الإظهار، والآخر الكتمان.
وأن الإظهار في هذا الموضع أشبه بمعنى الكلام، إذ كان الإخفاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستحيل معناه، إذ كان محالا أن يخفي أحد عن نفسه شيئا هو به عالم، والله تعالى ذكره لا يخفى عليه خافية؟
قيل: الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وإنما وجَّهنا معنى (أُخْفِيها) بضمّ الألف إلى معنى: أسترها من نفسي، لأن المعروف من معنى الإخفاء في كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفيت الشيء: إذا سترته، وأن الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهار، اعتمدوا على بيت لامرئ القيس ابن عابس الكندي.
حُدثت عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب، عن أهله في بلده:
فإنْ تُدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُخْفِهِ ... وإنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُد (1)
بضمّ النون من لا نخفه، ومعناه: لا نظهره، فكان اعتمادهم في توجيه الإخفاء في هذا الموضع إلى الإظهار على ما ذكروا من سماعهم هذا البيت، على ما وصفت
ن ضم النون من نخفه، وقد أنشدني الثقة عن الفرّاء:
فإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَخْفِهِ
بفتح النون من نخفه، من خفيته أخفيه، وهو أولى بالصواب لأنه المعروف من كلام العرب.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتح في الألف من أخفيها غير جائز عندنا لما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك. أكاد استرها من نفسي.
وأما وجه صحة القول في ذلك، فهو أن الله تعالى ذكره خاطب بالقرآن العرب على ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بينهم، فلما كان معروفا في كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد المبالغة في الخبر عن إخفائه شيئا هو له مسرّ: قد كدت أن أخفي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفيه عن نفسي أخفيته، خاطبهم على حسب ما قد جرى به استعمالهم في ذلك من الكلام بينهم، وما قد عرفوه في منطقهم وقد قيل في ذلك أقوال غير ما قلنا. وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقة أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم، فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئا يقطع العذر). انتهى كلام الطبري رحمه الله، وهو من أجود من أبان عن معنى هذه الآية في تفسيره.
وامرؤ القيس بن عابس الكندي الذي نسب له الشاهد الشعري هو معدود من الصحابة رضي الله عنهم، وهو أحد الشعراء الذين سموا بامرئ القيس، وقد ذكرهم الآمدي في المؤتلف والمختلف وغيره كالبغدادي في خزانة الأدب. قال البغدادي: (ذكر الآمدي في "المؤتلف والمختلف" عشرة من الشعراء ممن اسمهم امرؤ القيس واحد منهم صحابي، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي. وزاد صاحب القاموس على ما قال الآمدي اثنين وهما صحابيان: أحدهما: امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وامرؤ القيس بن الفاخر بن الطماح).
ولعلك لاحظت أخي الكريم الخلاف بين المفسرين في ضبط الشاهد الشعري والاستشهاد به على المعنى اللغوي، وهو الشاهد الرئيس الذي اعتمد عليه القائلون بأن معنى أخفيها أظهرها، فالذين احتجوا به على أن (أُخفيها) بمعنى أظهرها رووه بضم النون (لا نُخْفِه)، في حين إن الطبري يروي عن الفراء الكوفي أنه روى الشاهد بفتح النون (نخفه) فيبطل الاستشهاد به على المعنى الذي ذهبوا إليه، ويسلم للطبري رحمه الله اختياره الذي اختاره. وهذه من مسائل الاستشهاد بالشعر في كتب التفسير ولها أمثلة.
¥