رابعًا: بالنظر إلى استعمال هذين المصطلحين عند السلف (الصحابة والتابعين وأتباعهم) نجد أنهم يُعنون بالمكان، ويتضمن قولهم الزمان، بل هم أكثر رعاية لمكان النزول ولو كان خارج هاتين البلدتين؛ لذا قد يحددون الموضع بدقة، كالذي أورده السيوطي ـ أثناء حديثه عن المكي والمدني ـ عن عكرمة، قال: (وقال أيوب: سأل رجل عكرمة عن آية في القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع. أخرجه أبو نعيم في الحلية).
وإن تتبع أقوالهم في المكي والمدني يشير إلى تطبيقات عملية فيها العناية بالمكان واعتبار الزمان، ولهم في هذا أمثلة ظاهرة جدًا، منها:
1 ـ قال الطبري: حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير:"وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ" أهو عبد الله بن سَلام؟ قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام! قال: وكان يقرؤها:"وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ" يقول: مِنْ عند الله).
2 ـ قال الطبري: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال الضحاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) ثمان حجج. وقال ابن جُرَيج: وأخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد بن جُبير: هل لمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ فقال: لا فقرأ عليه هذه الآية كلها، فقال سعيد بن جُبير: قرأتها على ابن عباس كما قرأتها علي، فقال: هذه مكية، نسختها آية مدنية، التي في سورة النساء
وهناك أمثلة أخرى غيرها، ويكفي في هذا المقام مثل هذين المثالين.
ومما يحسن لفت النظر إليه ـ في هذا الموضوع ـ ما يأتي:
الأول: أن الاعتماد في التفريق على مصطلح الهجرة متأخر عن زمانهم، فلم يكن إلا في طبقة صغار أتباع التابعين من أبناء الجيل الثاني من القرن الثاني، والذين ورد عنهم هذا المصطلح يحيى بن سلام (ت: 200)، وعلى بن الحسين بن واقد (ت: 211) هم من أبناء هذا الجيل.
الثاني: أن في عمل السلف في اعتبارالمكان المتضمن للزمان أمر مهم، وهو تحديد مكان النزول بدقة، وهذه الفائدة لا تتأتى لو اعتبرت الزمان فحسب؛ لأن مكان نزولها لن يكون مقصدًا للباحث باعتبار الزمان.
الثالث: أننا لسنا أمام قولين مختلفين، بل هما قولان متداخلان من وجه، لذا لسنا بحاجة إلى الترجيح في هذا المقام، بل بيان وجه الارتباط بينهما، الرابع: أن يكون عندنا فكرة البناء على ما عمله السلف ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وفي هذا المقام فإن العمل بالقولين واعتبارهما وإعمالهما معًا ـ مع صحتهما ـ أولى من إبطال أحدهما باعتماد الآخر.
وهذا يعني أن نتفهَّم مصطلح السلف، وكيف تعاملوا مع هذه المسألة العلمية، وهذا التفهم يعيننا على بيان تطور المصطلحات، واختلافها من طبقة إلى طبقة، ومعرفة كل قول على وجهه الذي أراده المتكلم به.
ـ[مساعد الطيار]ــــــــ[09 Aug 2010, 10:59 ص]ـ
مما يضاف إلى هذا المبحث، ويمكن إثراؤه بها موضوع (الآيات المستثناة)، ولعل أحد الباحثين يخصص لهذا الموضوع وما يتعلق به من أثار علمية مقالة علمية مستقلة، فبعض عبارات السلف يتضح فيها اعتبار الزمان والمكان معًا، وجمعها ودراستها مفيد جدًا في بيان تأصيل هذه المسألة، والله الموفق.
ـ[تيسير الغول]ــــــــ[09 Aug 2010, 11:51 ص]ـ
مما يضاف إلى هذا المبحث، ويمكن إثراؤه بها موضوع (الآيات المستثناة)، ولعل أحد الباحثين يخصص لهذا الموضوع وما يتعلق به من أثار علمية مقالة علمية مستقلة، فبعض عبارات السلف يتضح فيها اعتبار الزمان والمكان معًا، وجمعها ودراستها مفيد جدًا في بيان تأصيل هذه المسألة، والله الموفق.
يا حبذا أيضاً لو نعلم من هو اول من اعتنى وصنّف القرآن الى مدني ومكي. وهل هذا التصنيف كان مرافقاً لمصحف عثمان أم أن المسألة ظلت على الإجتهاد دون التوقيف؟ وإذا كان ذلك التقسيم قد دُوّن في العهد القريب من النزول. فلماذا هذا الإختلاف الكبير بين ما هو مدني ومكي؟ وهل حقاً أن الأسلوب المدني يختلف عن المكي في كل السور والآيات أم هي فقط صفات غالبة. وأخيراً أظن أن عنوان مصطلح المكي والمدني بين المكانية والزمانية. يُفهم منه أيضاً الظروف والأحوال والمناسبات التي نزلت فيه السور والآيات. إذ ان كلمة زمانيّة تفيد الظرفية وهي ليست بمعنى الزمنيّة التي تعني جزء من وقت.
ـ[نورة العنزي]ــــــــ[19 Dec 2010, 05:22 م]ـ
وإن الدعوة إلى التحرير لا تعني نقض ما توصل إليه السابقون برمته، بل هي دعوة إلى تتميم ما بقي منه بحاجة إلى تقويم وتحرير، ولو كانت فكرة الاكتفاء بما قدمه السابقون في ذهن أسلافنا لما تقدم العلم، ولبقيت كثير من المعلومات أشبه بالعلم التوقيفي الذي لا يجوز تقويمه أو الزيادة عليه، وذلك ما لم يكن في خلدهم رحمهم الله.
كلام نفيس. زادكم الله من فضله.
¥