تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سبأ/46 - 48]:

أي (قُلْ) يا أيها الرسول، لهؤلاء المكذبين المعاندين، المتصدين لرد الحق وتكذيبه، والقدح بمن جاء به: "إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ" أي: بخصلة واحدة، أشير عليكم بها، وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف، لست أدعوكم بها إلى اتباع قولي، ولا إلى ترك قولكم، من دون موجب لذلك، وهي: "أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى" أي: تنهضوا بهمة، ونشاط، وقصد لاتباع الصواب، وإخلاص للّه، مجتمعين، ومتباحثين في ذلك، ومتناظرين، وفرادى، كل واحد يخاطب نفسه بذلك.

فإذا قمتم للّه، مثنى وفرادى، استعملتم فكركم، وأجلتموه، وتدبرتم أحوال رسولكم، هل هو مجنون، فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته، وصفته؟ أم هو نبي صادق، منذر لكم ما يضركم، مما أمامكم من العذاب الشديد؟

فلو قبلوا هذه الموعظة، واستعملوها، لتبين لهم أكثر من غيرهم، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ليس بمجنون، لأن هيئاته ليست كهيئات المجانين، في خنقهم، واختلاجهم، ونظرهم، بل هيئته أحسن الهيئات، وحركاته أجل الحركات، وهو أكمل الخلق، أدبا، وسكينة، وتواضعا، ووقارا، لا يكون إلا لأرزن الرجال عقلا.

ثم إذا تأملوا كلامه الفصيح، ولفظه المليح، وكلماته التي تملأ القلوب، أمنا، وإيمانا، وتزكى النفوس، وتطهر القلوب، وتبعث على مكارم الأخلاق، وتحث على محاسن الشيم، وترهب عن مساوئ الأخلاق ورذائلها، إذا تكلم رمقته العيون، هيبة وإجلالا وتعظيما.

فهل هذا يشبه هذيان المجانين، وعربدتهم، وكلامهم الذي يشبه أحوالهم؟!

فكل من تدبر أحواله ومقصده استعلام هل هو رسول اللّه أم لا؟ سواء تفكر وحده، أو مع غيره، جزم بأنه رسول اللّه حقا، ونبيه صدقا، خصوصا المخاطبين، الذي هو صاحبهم يعرفون أول أمره وآخره.

وثَمَّ مانع للنفوس آخر عن اتباع الداعي إلى الحق، وهو أنه يأخذ أموال من يستجيب له، ويأخذ أجرة على دعوته. فبين اللّه تعالى نزاهة رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فقال: "قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ" أي: على اتباعكم للحق "فَهُوَ لَكُمْ" أي: فأشهدكم أن ذلك الأجر - على التقدير - أنه لكم، "إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" أي: محيط علمه بما أدعو إليه، فلو كنت كاذبا، لأخذني بعقوبته، وشهيد أيضا على أعمالكم، سيحفظها عليكم، ثم يجازيكم بها.

ولما بين البراهين الدالة على صحة الحق، وبطلان الباطل، أخبر تعالى أن هذه سنته وعادته أن "يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ" لأنه بين من الحق في هذا الموضع، ورد به أقوال المكذبين، ما كان عبرة للمعتبرين، وآية للمتأملين. فإنك كما ترى، كيف اضمحلت أقوال المكذبين، وتبين كذبهم وعنادهم، وظهر الحق وسطع، وبطل الباطل وانقمع، وذلك بسبب بيان "عَلامُ الْغُيُوبِ" الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوب، من الوساوس والشبه، ويعلم ما يقابل ذلك، ويدفعه من الحجج" (1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ في معرض ذكره للفوائد التي تستفاد من قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (*) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة/65، 66]:

" ومنها ـ أي من فوائد هاتين الآيتين ـ:

أن الذين ينتفعون بمثل هذه المواعظ هم المتقون.

ومنها: أن المواعظ قسمان:

كونية، وشرعية؛ فالموعظة هنا كونية قدرية؛ لأن الله أحل بهم العقوبة التي تكون نكالاً لما بين يديها، وما خلفها، وموعظة للمتقين.

وأما الشرعية فمثل قوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور" [يونس: 57].

والمواعظ الكونية أشد تأثيراً لأصحاب القلوب القاسية؛ أما المواعظ الشرعية فهي أعظم تأثيراً في قلوب العارفين بالله اللينة قلوبهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات.

ومن فوائد الآيتين:

أن الذين ينتفعون بالمواعظ هم المتقون؛ وأما غير المتقي فإنه لا ينتفع لا بالمواعظ الكونية، ولا بالمواعظ الشرعية؛ قد ينتفع بالمواعظ الكونية اضطراراً، وإكراهاً؛ وقد لا ينتفع؛ وقد يقول: هذه الأشياء ظواهر كونية طبيعية عادية، كما قال تعالى: "وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم" [الطور: 44]؛ وقد ينتفع، ويرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر إذا هم يشركون" [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختَّار كفور" [لقمان: 32].

ومن فوائد الآيتين: أن من فوائد التقوى ـ وما أكثر فوائدها ـ أن المتقي يتعظ بآيات الله سبحانه وتعالى الكونية، والشرعية" (2).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير