قوله: (والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون):
المراد أنه كان يحصل له ما طلب ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك في حق سليمان عليه السلام في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجو الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع (10).
قال ابن حجر: " وفيه جواز السهو على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علو منصبهم" (11).
الشبهات التي أوردها المؤلف:
الشبهة الأولى: الاضطراب في عدد النساء (12):
قال: " ومثل هذا الاختلاف في عدد النساء ورد أيضاً في الروايات المختلفة لهذا الحديث في البخاري ... ولكن الإشكال في متن هذا الحديث غير مقتصر على الاضطراب في عدد النساء، بل فيه إشكالات أهم بكثير " (13).
الجواب على هذا الإشكال:
لقد اختلفت الروايات في عدد نساء سليمان عليه السلام ومحصلها:
(ستون (14)، وسبعون (15)، وتسعون (16)، وتسع وتسعون (17)، ومائة (18)). وهذا الاختلاف من الرواة كما قال ابن حجر: " وذكر أبو موسى المديني ... أن في بعض نسخ مسلم عقب قصة سليمان هذا الاختلاف في هذا العدد، وليس هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من الناقلين" (19).
وجعل الكردي هذا الاختلاف اضطراباً قادحاً في متن الحديث ويمكن الجواب عليه بما يلي:
1 - أن إمكانية الجمع أو الترجيح تنفي الاضطراب: فقد ذكر العلماء أن الاضطراب لا يطلق على ما يمكن فيه الجمع أو الترجيح.
قال ابن الصلاح: " المضطرب من الحديث هو: الذي تختلف الرواية فيه، فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له. وإنما نسميه مضطرباً إذا تساوت الروايتان. أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى ... فالحكم للراجحة ولا يطلق عليه حينئذ وصف المضطرب ولا حكمه" (20).
وقال ابن كثير في تعريف المضطرب: " وهو أن يختلف الرواة فيه على شيخ بعينه، أو من وجوهٍ أخر متعادلة لا يترجح بعضها على بعض" (21).
وقال أحمد شاكر: " وإن تساوت الروايات وامتنع الترجيح؛ كان الحديث مضطرباً" (22).
وقال القاسمي: " ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات ... فالحكم للراجحة ولا يكون الحديث مضطرباً " (23).
وبهذا يتبين أن الاضطراب الموجب للاطراح هو اختلاف متكافئ، مع تعذر الجمع، أي أنه متقارب ومتقاوم لا نستطيع ترجيح إحدى الروايات على الأخرى (24).
وهذا الحديث بهذا الوصف لا يسمى مضطرباً فإنه لما وقع هذا الاختلاف في العدد لجأ العلماء بالحديث إلى الترجيح أو الجمع بينها.
ولم يتوقفوا عن العمل بهذا الحديث، واستخراج الأحكام الفقهية الكثيرة منه، لأن الجمع أو الترجيح ممكن بين الروايات.
وبيان الجمع والترجيح كما يلي:
أـ الجمع:
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله قول الجمع بين هذه الروايات فقال: "والجمع بينها أن الستين كنّ حرائر، وما زاد عليهن كنّ سراري، أو بالعكس. وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون، والمائة؛ فكنّ دون المائة وفوق التسعين، فمن قال (تسعون) ألغى الكسر، ومن قال (مائة) جبره. ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر (25) " (26). وقال: " قلت: والذي يظهر مع كون مخرج الحديث عن أبي هريرة، واختلاف الرواة عنه أن الحكم للزائد، لأن الجميع ثقات" (27).
ب ـ الترجيح:
سلك الإمام البخاري رحمه الله مسلك الترجيح حيث ذكر قول شعيب وأبي الزناد وهو: التسعين، ثم قال: " هو أصح " (28).
وغير خافٍ على من له إلمام بمنهج المحدثين أنهم اختاروا هذا المنحى المحتاط في الجمع أو الترجيح، في الحكم على الروايات الصحيحة التي اختلفت لئلا يرفضوا ما هو صحيح.
وكذلك منحوا من ليس عنده علم بالحديث قاعدة واضحة لئلا يقع في رفض الأحاديث الصحيحة لمجرد وقوع نوع من الاختلاف في رواياتها.
وبهذه الدقةِ في الاصطلاح قد صانوا أنفسهم من الحكم الصبياني على الحديث من جهة، ومن جهة أخرى منعوا أدعياء العلم بالحديث من التلاعب به كيف يشاءون (29).
2 - أن الشك في الراوية لا يبطل العمل بالحديث الصحيح:
فإن صحة الحديث توجب القطع به، كما قال ابن الصلاح في الصحيحين وجزم بأنه هو القول الصحيح (30).
قال السخاوي: " وسبقه إلى القول بذلك في الخبر المتلقي بالقبول الجمهورُ من المحدثين والأصوليين، وعامة السلف، بل وكذا غير واحد في الصحيحين" (31).
¥