قال أبو إسحاق الإسفراييني: " أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوعٌ بصحة أصولها ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها، فمن خالف حكمه خبراً منها وليس له تأويل سائغ للخبر؛ نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول" (32).
وقال ابن حجر: " وقد يقع فيها ـ أي في أخبار الآحاد ـ ... ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار خلافاً لمن أبى ... والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر، فإنه احتفت به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر" (33).
وبهذا يُعلم أن مثل هذا الشك في الراوية لا يقدح في الحديث الصحيح لا سيما ما كان في البخاري أو مسلم. وقد وردت أحاديث بمثل هذا وتلقاها العلماء بالقبول والعمل، ومن ذلك حديث جابر رضي الله عنه في قصة بيعه للجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (34)، فقد اختلف الرواة في قدر الثمن بما هو أكثر اختلافاً من الاختلاف في عدد النساء هنا.
الشبهة الثانية: أن سليمان عليه السلام قد رفض الاستثناء ولا يقع ذلك من نبي:
ومحصل هذه الشبهة مركب من أمور هي:
1 - أن سليمان عليه السلام قد رفض هذا الاستثناء.
2 - أنه لا يقع ذلك من نبي.
3 - أن ما فعله سليمان عليه السلام لا يكون نسياناً بعد التذكير.
قال الكردي: " كيف يُذَكَّر نبيٌ عظيم من أنبياء الله تعالى ـ وهو سليمان الحكيم ـ الذي سُمي بذلك لحكمته ورجاحة رأيه، بضرورة الاستثناء بإن شاء الله فيرفض أن يقولها؟!، ومن الغرائب ما ورد في أحد طرق الحديث من أن سليمان ـ بعد ما ذكّره صاحبه ـ لم يقل ونسي (35)، هذا في حين أن النسيان قد يقع عند عدم التذكير، أما إذا ذكر الإنسان بقول شيء، ومع ذلك لم يقله، فهذا لا يسمى نسياناً! " (36).
والجواب على هذه الشبهة كما يلي:
أولاً: أن الكردي يفتري على سليمان عليه السلام بقوله (رفض):
فكلمة (رفض) التي عبّر بها هنا تحمل في طياتها ـ كما هو معلوم ـ معنى البغض أو الكره، وهو بهذا يعظم العجب من قصة الحديث وينكرها، ولم يرد في نص الحديث أن سليمان عليه السلام رفض، بل الوارد ـ كما في البخاري ـ أنه (نسي) (37). ولا شك أن هناك فرقاً بين التعبيرين.
ثانياً: أن النسيان واقع من الأنبياء عليه الصلاة والسلام:
فالنسيان واقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد أثبته القرآن الكريم الذي يعجز الكردي عن رده قال تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) [طه:115]. ولو كان نسيان آدم عليه السلام مما لا يُؤاخذ عليه لما آخذه الله تعالى.
قال ابن جرير: " إن النسيان على وجهين:
أحدهما: على وجه التضييع من العبد والتفريط.
والآخر: على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو تركٌ منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو النسيان الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً) [طه:115] " (38).
وقال ابن عطية: " ونسي معناه: ترك، ونسيان الذهول لا يمكن هنا، لأنه لا يتعلق بالناسي عقاب" (39).
بل قد ذكر الله تعالى ما هو أشد من ذلك فقال جل وعلا: (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى) [طه:121].
وما يقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من ذلك غير قادح في مقام النبوة والعصمة كما قال الشنقيطي: " ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلى من درجة من لم يقع منه ذلك. كما قال هنا: (وعصى آدم ربه فغوى) [طه: 121] ثم أتبع ذلك بقوله: (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) [طه:122] " (40).
¥