ثم قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)) , والمعصرات قيل فيها عدة أقوال: قيل إن المراد بها: السحاب. وقيل: الرياح. وقيل: السماء. وأقربها الأول. فهذه السُّحب التي تسافر إلينا من أماكن بعيدة، نشأت عن تسليط الله لضوء الشمس، ووهجها، على المسطحات الهائلة من المحيطات, فتتبخر كميات هائلة من مياه البحار، وترقى في طبقات السماء، ثم تتكثف، بعضها إلى بعض, ثم يُرسل الله الرياح كالقطارات، تقطرها، وتحملها إلى بلد ميت, إلى أرض قاحلة, كالمناطق القارّيّة، البعيدة عن مصادر المياه. يَسوقها الله عز وجل، بهذه الرياح، حتى يُوقفها في المكان الذي أراد أن تُنزل فيه حمولتها, فحينئذ تُعتصر، فتُنزل عُصارتها على هذا المكان الميت, فيُحي الله بهذا الماء أرضاً ميتة! ولو اجتمع مَنْ بأقطار الأرض، على أن ينقلوا عُشْر مِعشار هذا الماء لم يتمكنوا.
وقوله تعالى: (مَاءً ثَجَّاجًا) هو ماء مطلق, ماء نقي, ماء طهور, ومعنى (ثَجَّاجًا) أي: غزيراً، كثيراً. فسبحان من حمل هذه الأطنان من المياه، بين السماء والأرض, ثم صبها حيث شاء.
وعلى القول الآخر، بأن المراد بالمعصرات: الرياح. نجعل (مِنْ) بمعنى (الباء)، فكأن التقدير: وأنزلنا بالرياح ماءاً ثجاجاً. لأن الرياح هي التي تسوق السحاب, لكن القول الأول أولى. وأما من فسرها بالسماء, فإشارة إلى عُلوّها، وكلُّ ما علاك فهو سماء لك.
وهذا السّوْق لحكمة، كما قال تعالى: (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)) , فتبارك الله, أرض قاحلة غبراء، لا ترى فيها أثراً لحياة, يُصب عليها ماء السماء, فإذا بها تُنبت أزاهير، وحُبوباً، وثماراً، وفواكه, فمن أودع الأرض هذه البذور وأنبتها؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا) , الحبُّ: اسم جنس يشمل كل ما يخطر ببالك من الحبوب؛ من بُر، وشعير، وأرز، وغير ذلك. وكذلك النبات: يشمل كل نبات مما يأكله الآدمي، وتأكله الحيوانات. وكل هذا من جَرّاء سَوْق الله تعالى لهذه المُعصرات إلى هذه الأرض.
وقوله تعالى: (وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) , الجنات هي: البساتين. وسُميت جنات؛ لأنها تُجِنُّ صاحبها، أي: تستره. ولهذا قال: (أَلْفَافًا) أي: ملتفة, والملتف فيها أغصان الأشجار, فإنها لكثرتها، التفَّ بعضها على بعض, كل ذلك من آثار ماء السماء، الذي سقى الله تعالى به هذه الأرض, فإذا بها تتحول إلى حديقة غَنَّاء, تَصدح فيها الطيور، وترعى فيها السائمة، ويأكل منها الإنسان.
أرأيتَ هذه السلسلة المتلاحقة من الآيات الكونية العظيمة، كيف تُلامس شِغاف القلب؟ ثم ألا تعجب مِن أن هذه المظاهر تُقابلُنا صباح مساء, صيفاً وشتاءً, ثم لا ننتبه لهذا المعاني العظيمة التي أودعها الله تعالى فيها! ثم تأمل ثالثاً، في هؤلاء المخاطبين، من كفار قريش، الذين يُنكرون البعث، ويُنكرون القرآن، ويُنكرون الرسول، ويُنكرون توحيد الله بالعبادة, كيف أن الله سبحانه وتعالى، أيقظهم، ونبّههم، وحَرّك عقولهم البليدة, فهم يرون ذلك دوماً، ويعرفونه, لكنها معرفة باردة؛ لأنها مناظر مُتكررة، رتيبة، لا تُحدث في نفوسهم الأثر المطلوب, فما أشبههم بإنسان ساهٍ، غافل، أتاه مَن أتاه، فأمسكه من منكبيه، وهزّه، وقال له: انتبه, انظر, تَبصّر, تَفكّر, اعتبر, أين أنت؟ فقام مَشدوهاً لِيَنظر, لكن كما قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} العنكبوت:43, فالآيات موجودة، ومبثوثة، ولكن لا ينتفع بها إلا أهل الإيمان, فلأجل ذلك ساق سبحانه وتعالى، هذه الآيات المتتابعة، لإخراج هؤلاء من غفلتهم، وسدرتهم, لِيصل بهم إلى النتيجة المنطقية؛ وهي: إذا كنتم تُقرون من أول وهلة، ومن أول سؤال: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) , فتقولون بلى, بلى, بلى, في عشر آيات متلاحقة, إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي صنع ذلك, فمن المستحق للعبادة إذاً؟ أهو الذي صنع ذلك أم غيره ممن لم يصنع شيئاً؟ لا شك أن المستحق للعبادة هو من صنع ذلك. ولهذا لمّا أبطل الله تعالى آلهة المشركين قال: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا
¥