حدثني بعض الناس، ممن عاش في منطقة قريبة من الدائرة القطبية في شمال إحدى الدول الاسكندنافية, قال: عملتُ في بلد لا نرى فيه الشمس ستة أشهر, تأتي دقائق معدودة, ويرتفع قرص الشمس، ثم يسقط مباشرة, فنعيش في ظلام دامس, إلا ما يحصل بالإضاءة الكهربائية, حتى إن أحدنا يستيقظ من النوم، ويُبصر ساعته، فيجد الساعة مثلاً، السادسة , فيسأل من حوله: الساعة السادسة، صباحاً أو مساءاً؟ لا يدري؛ لأن الزمن كله ليل! والشاهد في هذا, أنه يقول: إن حياة الناس في تلك البلدة، وهو ليس من أهلها, إنما قدم للعمل فيها، حياة كئيبة، يُحس الإنسان فيها بالكآبة، والانقباض، والتجهم في وجوه الناس.
إن من نعمة الله عز وجل، على هذه البلاد, التي أنزل فيها القرآن، وجعلها مهبطاً للرسالة، و منطلقاً للدعوة، أن جعلها بلاداً متوسطة, تتعاقب فيها الفصول, ويتعاقب فيها الليل والنهار, يَزيدان ويَنقصان, فهي سُرّةُ العالم, وقلب الدنيا.
وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) , معنى معاشاً أي: تتعيّشون فيه، وتطلبون فيه رزقكم؛ تحرِثون، وتتّجرون، وتعملون، لأن هذه الإضاءة الطبيعية تمكننا من ذلك, ولو اجتمع كل من بأقطار الأرض على أن يُضيئوا الدنيا بما عندهم من آلات، ومولدات، لم يبلغوا نزرا يسيراً من هذا الضوء الذي يجلبه الله تعالى لنا في النهار.
وبعد ذكر هذه الأحوال البشرية الأرضية، نقلنا نقلة عُلوية، فقال: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)) , فإذا البصر يشهق إلى أعلى، ليتأمل في هذا البناء المُحكم المتين, وهو السموات. فالسماء مبنية، كما أخبر الله عز وجل: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات: 47, وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} الأنبياء: 32, فهي سقف حقيقي, وعبّر في موضع آخر عن السموات بأنها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} المؤمنون: 17, ففوقنا سبع سموات. ومعنى (شِدَاداً) أي: متينة، محكمة، متماسكة, كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} الملك: 3, أي: من ثُقوب، وصدوع. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} حاول مرة ثانية، وثالثة, {كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} الملك: 4, حسر البصر أن يُجد ثُقباً واحداً، في هذا البناء المُحكم.
وهذه السموات السبع، لا ندرك كيفيتها, هل المقصود بها ما يُشير إليه علماء الفلك، أنها المِجرّات, ويقولون: إن كل مجرة يتبعها قريب من مئة مليون نجم, وهذه النجوم أكبر من الشمس بآلاف المرات, أم أنها غير ذلك؟ الله أعلم. لكننا نؤمن بوجود سبع سموات, وأن المباشر لنا منها هي السماء الدنيا.
والبناء يدل على وجود نظام يحكمها, بحيث لا يَحيد جُرم سماوي عن مجراه قِيد أَنْمُلة, هذا هو الشد والإحكام والإتقان في بناءها.
ثم لمّا ذكر الله عز وجل السماء, ذكر بعض آياتها, بل ذكر أعظمها بالنسبة لما تُدركه أبصارنا، وهو: الشمس. ووصفها بهذا الوصف الجميل المُعبّر: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)) , فإن السراج يجمع وصفين: الإضاءة، والحرارة. فهو مَجلبة للنور ومَجلبة للدفء. وزاد ذلك بأن قال: (وَهَّاجًا) , فهو يَتوهج. شتان بين الشمس والقمر؛ فالقمر كوكب ذو جُرم بارد، كالمرآة، يعكس نور الشمس. فلذلك لا نجد من القمر دفئاً, وإن كُنّا نجدُ منه نوراً, لكنه دون إضاءة الشمس. أما الشمس فإنها تتوهج، وتبعث بالحرارة, ويترتب على ذلك، أي: الحرارة والإضاءة، أمور حيوية كثيرة جداً، تتعلق بصحة الإنسان، وبنمو النبات، وغير ذلك مما نُدركه، وما لا نُدركه. ولا ريب أن العلوم الحديثة؛ من علوم الفلك، وعلوم الأحياء، وعلوم وظائف الأعضاء, كشفت آفاقاً واسعة في هذا المقام, لكن القَدْر الذي بيّنه الله تعالى لعباده كافٍ في إقامة الحجة, فإن الناس يُدركون ذلك، وهم يَتنعمون بضوء الشمس وبدفئها، وبرؤية أثرها على النبات, والحيوانات.
¥