ـ[شاكر]ــــــــ[18 Apr 2009, 09:43 م]ـ
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية. هذا الذي كان بين فرعون وملئه , والمؤمنين من السحرة. . السابقين. .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار "الإنسان" على "الشيطان"!
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية. بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية.
فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة. والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح. ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب.
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز , وتمنى بالقرب من السلطان. . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون ; وتستهين بالتهديد والوعيد , وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب. وما تغير في حياتها شيء , ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى. وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت , وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد. . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة , فيلتقط القلب إيقاعات القدرة , ويتسمع الضمير أصداء الهداية , وتتلقى البصيرة إشراقات النور. . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ; ولكنها هي تغير الواقع المادي ; وترفع "الإنسان" في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال!
ويذهب التهديد. . ويتلاشى الوعيد. . ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت , ولا يتردد , ولا يحيد! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد. . إن روعة الموقف تبلغ ذروتها ; وتنتهي إلى غايتها. وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض ; مع الهدف النفسي للقصة , على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني , في تناسق لا يبلغه إلا القرآن.
تعقيب على الدرس الرابع
ولكننا نحن في هذه الظلال ينبغي أن نقف وقفة قصيرة أمام هذا المشهد الباهر الأخاذ. . .
نقف ابتداء أمام إدراك فرعون وملئه أن إيمان السحرة برب العالمين , رب موسى وهارون , يمثل خطراً على نظام ملكهم وحكمهم ; لتعارض القاعدة التي يقوم عليها هذا الإيمان , مع القاعدة التي يقوم عليها ذلك السلطان. . وقد عرضنا لهذا الأمر من قبل. . ونريد أن نقرر هذه الحقيقة ونؤكدها. . إنه لا يجتمع في قلب واحد , ولا في بلد واحد , ولا في نظام حكم واحد , أن يكون الله رب العالمين , وأن يكون السلطان في حياة الناس لعبد من العبيد , يباشره بتشريع من عنده وقوانين. . فهذا دين وذلك دين. .
ونقف بعد ذلك أمام إدراك السحرة - بعد أن أشرق نور الإيمان في قلوبهم , وجعل لهم فرقاناً في تصورهم - أن المعركة بينهم وبين فرعون وملئه هي معركة العقيدة ; وأنه لا ينقم منهم إلا إيمانهم برب العالمين.فهذا الإيمان على هذا النحو يهدد عرش فرعون وملكه وسلطانه ; ويهدد مراكز الملأ من قومه وسلطانهم المستمد من سلطان فرعون. . أو بتعبير آخر مرادف: من ربوبية فرعون , ويهدد القيم التي يقوم عليها المجتمع الوثني كله. . وهذا الإدراك لطبيعة المعركة ضروري لكل من يتصدى للدعوة إلى ربوبية الله وحده. فهو وحده الذي أهل هؤلاء المؤمنين للاستهانة بما يلقونه في سبيله. . إنهم يقدمون على الموت مستهينين ليقينهم بأنهم هم المؤمنون برب العالمين ; وأن عدوهم على دين غير دينهم ; لأنه بمزاولته للسلطان وتعبيد الناس لأمره ينكر ربوبية رب العالمين. . فهو إذن من الكافرين. . وما يمكن أن يمضي المؤمنون في طريق الدعوة إلى رب العالمين - على ما ينتظرهم فيها من التعذيب والتنكيل - إلا بمثل هذا اليقين بشقيه: أنهم هم المؤمنون , وأن أعداءهم هم الكافرون , وأنهم إنما يحاربونهم على الدين , ولا ينقمون منهم إلا الدين.
ونقف بعد ذلك أمام الروعة الباهرة لانتصار العقيدة على الحياة. وانتصار العزيمة على الألم. وانتصار "الإنسان" على الشيطان. وهو مشهد بالغ الروعة. . نعترف أننا نعجز عن القول فيه. فندعه كما صوره النص القرآني الكريم!
(في ظلال القرآن)