إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم , ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر , أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر. والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له , لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة , ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور. . ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق , الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين. .
ولكن الطواغيت المتجبرين لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر ; ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان ; ولا كيف تلمسها حرارة اليقين.
فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب - وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء -. .
ومن ثم فوجىء فرعون بهذا الإيمان المفاجىء الذي لم يدرك دبيبه في القلوب ولم يتابع خطاه في النفوس ; ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر. .
ثم هزته المفاجأة الخطيرة التي تزلزل العرش من تحته: مفاجأة استسلام السحرة - وهم من كهنة المعابد - لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن كانوا مجموعين لإبطال دعوة موسى وهارون إلى رب العالمين!. .
والعرش والسلطان هما كل شيء في حياة الطواغيت. . وكل جريمة يمكن أن يرتكبوها بلا تحرج في سبيل المحافظة على الطاغوت:
(قال فرعون: آمنتم به قبل أن آذن لكم! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها. فسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ثم لأصلبنكم أجمعين). .
هكذا. . (آمنتم به قبل أن آذن لكم!). .
كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق - وهم أنفسهم لاسلطان لهم عليها -
أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم - وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئاً -
أو يستأذنوه في أن تشرق أرواحهم - وهم أنفسهم لا يمسكون مداخلها.
أو كأنما كان عليهم أن يدفعوا اليقين وهو ينبت من الأعماق.
أو أن يطمسوا الإيمان وهو يترقرق من الأغوار.
أو أن يحجبوا النور وهو ينبعث من شعاب اليقين!
ولكنه الطاغوت جاهل غبي مطموس ; وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور!
ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز:
(إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها). .
وفي نص آخر: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر)!
والمسألة واضحة المعالم. .
إنها دعوة موسى إلى (رب العالمين). . هي التي تزعج وتخيف. .
إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين.
وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته. وإقامة أنفسهم أرباباً من دون الله يشرعون للناس ما يشاءون , ويعبدون الناس لما يشرعون!. .
إنهما منهجان لا يجتمعان. . . أو هما دينان لا يجتمعان. . أو هما ربان لا يجتمعان. .
وفرعون كان يعرف وملؤه كانوا يعرفون. . ولقد فزعوا للدعوة من موسى وهارون إلى رب العالمين. فأولى أن يفزعوا الأن وقد ألقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون!
والسحرة من كهنة الديانة الوثنية التي تؤله فرعون , وتمكنه من رقاب الناس باسم الدين!
وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع:
(فسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف , ثم لأصلبنكم أجمعين). .
إنه التعذيب والتشوية والتنكيل. . وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق , الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان. . وعدة الباطل في وجه الحق الصريح. .
ولكن النفس البشرية حين تستعلن فيها حقيقة الإيمان ; تستعلى على قوة الأرض , وتستهين ببأس الطغاة ; وتنتصر فيها العقيدة على الحياة , وتحتقر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم.
إنها لا تقف لتسأل: ماذا ستأخذ وماذا ستدع؟
ماذا ستقبض وماذا ستدفع؟
ماذا ستخسر وماذا ستكسب؟
وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؟. .
لأن الأفق المشرق الوضيء أمامها هناك , فهي لا تنظر إلى شيء في الطريق. .
(قالوا: إنا إلى ربنا منقلبون. وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا. ربنا أفرغ علينا صبراً , وتوفنا مسلمين). .
إنه الإيمان الذي لا يفزع ولا يتزعزع. كما أنه لا يخضع أو يخنع.
الإيمان الذي يطمئن إلى النهاية فيرضاها , ويستيقن من الرجعة إلى ربه فيطمئن إلى جواره:
(قالوا: إنا إلى ربنا منقلبون). .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت. . وأنها معركة العقيدة في الصميم. . لا يداهن ولا يناور. . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة , لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة:
(وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا). .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة , وإلى من يتجه ; لا يطلب من خصمه السلامة والعافية , إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام:
(ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين). .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان , وأمام الوعي , وأمام الاطمئنان. .
يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام. فإذا هي مستعصية عليه , لأنها من أمر الله , لا يملك أمرها إلا الله. .
وماذا يملك الطغيان إذارغبت القلوب في جوار الله؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان!
يتبع بإذنه تعالى
¥