تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكن أين الدليل على أن القصائد لم تطوَّل إلا على عهد عبد المطلب؟ لا دليل، ومن ثم فإن ما بُنِىَ على ذلك لا دليل عليه هو أيضا وغير مقبول. إن ابن سلام يبنى على غير مقدمات، ثم يستخلص النتيجة من لاشىء. ثم ما معنى "أوائل العرب"؟ لقد كان العرب موجودين منذ آلاف السنين، فهل يقصد ابن سلام ذلك؟ إن كان فمن الطبيعى أن يصلنا عن عاد وثمود، فضلا عن حِمْيَر وتُبَّع، أشعار، فما وجه استبعاد ابن سلام للشعر المنسوب إلى أولئك أو هؤلاء؟ ثم انظر إلى طريقته فى البرهنة على أن معظم ما يُنْسَب إلى طَرَفة وعَبِيد هو شعرٌ منحولٌ تَرَ العجب. إنه يؤكد أولا أنه لم يصح لهما إلا عشر قصائد. إلا أنه يسارع قائلا إن هذه القصائد العشر لا يمكن أن تكون هى كل ما تركه كلاهما من الشعر، وإلا فكيف تمت لهما تلك الشهرة عند العرب؟ وكأنه لا بد أن يكون شعر الشاعر، أو حتى شعر الشاعر الكبير، كله شعرا عظيما. ترى من أين له ذلك؟ ثم أَعِد النظر فيما قاله عن حمل الشعر الكثير عليهما تَرَ ما هو أعجب، إذ يؤكد أن معظم شعرهما قد ضاع. يقول ابن سلام ذلك رغم ما يُنْسَب لهما من شعر كثير. ثم يستدير من الناحية المقابلة فيقول إن ضياع معظم شعرهما قد دفع الناس إلى تزييف الشعر وإضافته إليهما. وهو ما يعنى أنه يرفض كل ما هو موجود ثم يحاول الاستعاضة عنه بشىء من عنده. كذلك ما وجه الغُثَائِيّة فى شعر طَرَفَة وعَبِيد؟ لم يحاول عالمنا الكبير تعريفنا بشىء من ذلك، بل يكتفى بإطلاق الأحكام، وعلينا أن نُصِيخ السمع ونأخذ بما يقول دون أدنى جدال. وما هكذا يُؤْخَذ العلم!

ولقد قلنا إننا لا نوافق ابن سلام على أن العرب قد أهملوا الشعر وروايته عند مجىء الإسلام وبيَّنّا مكمن الخطإ فى كلامه، ومن ثم لا نوافقه أيضا فى قوله: "فلما راجعت العرب رواية الشعر وذِكْرَ أيامها ومآثرها استقلّ بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم. وكان قومٌ قلَّتْ وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم كانت الرواة بعد، فزادوا فى الأشعار التى قيلت. وليس يُشْكِل على أهل العلم زيادةُ الرواة ولا ما وضَعوا ولا ما وضَع المولّدون، وإنما عَضَّل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم فيُشْكِل ذلك بعض الإشكال. قال ابن سلام: أخبرنى أبو عبيدة أن ابن داوود بن متمم بن نويرة قَدِم البصرة فى بعض ما يَقْدَم له البدوى من الجَلَب والمِيرة فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح العطاردى فسألناه عن شعر أبيه متمّم وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته. فلما نَفِد شعر أبيه جعل يزيد فى الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذى على كلامه فيذكر المواضع التى ذكرها متمم والوقائع التى شهدها".

والسؤال هو: كيف عرف أبو عبيدة وابن نوح العطاردى أن شعر متمّم قد نَفِد قبل أن يشرع ابنه فى التزييف ونسبة الشعر المزيف إلى أبيه كما يُفْهَم من كلام أبى عبيدة؟ بل كيف عرفا أن هذ الشعر غير ذاك؟ هلا أوضحا لنا المقياس الذى اعتمداه فى هذه التفرقة؟ ثم لماذا يُقْدِم ابن متمم على هذا النحل؟ وكيف أعربا له عن شكهما فيما يرويه لهما من أشعار؟ وبم رَدَّ عليهما وسَوَّغ ما شَكَّا هما فيه؟ ثم عندنا هنا أيضا مقياس الجودة والرداءة، وهو المقياس الذى يتصور أصحابه أنه متى كان الشعر جيدا فهو لمن نُسِب له، ومتى كان رديئا فهو منحول له. وقد أوضحنا فيما سلف أن هذا مقياس غير صالح، لأنه ما من شاعر إلا وفى شعره الجيد والردىء. ولا ننس أن ابن متمم كان قد جاء إلى البصرة من البادية حيث يعيش دون أن يكون فى ذهنه مسبقا أن هناك من سوف يسأله عن شعر أبيه حتى يقال إنه كان مستعدا لتلك المناسبة فجهّز مقدما أشعارا ينوى أن ينحلها أباه. ثم ما الفائدة التى تعود عليه من مثل هذا النحل؟ وقبل ذلك كيف لنا أن نصدّق أن الأشعار التى رواها لهما ابن الشاعر هى أشعار منحطة فنيا ما داما لم يضعا بين أيدينا الأشعار الزائفة حتى يمكننا المقارنة بينها وبين نظيرتها الصحيحة؟ ومن هنا فإنى أستبعد أن يكون الأمر كما روته لنا القصة، وإلا لساق لنا الراوى تلك الأشعار المفتراة أو شيئا منها ووضح كيف تختلف عن الأشعار الحقيقية. أما الحكاية على النحو الذى وردتنا به فلا تعنى فى الواقع

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير