تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

شيئا. إن الراوى هنا يقوم بمهمة الخَصْم والحَكَم معا، ويريد منا أن نتقبل ما يقول دون أدنى نقاش. وأَنَّى ذلك؟ نحن هنا فى ميدان من ميادين البحث العلمى، وفى تلك الميادين ينبغى أن يوضع كل شىء على بساط البحث ومحكّ العقل، ولسنا فى مجلس من مجالس المجاملات الاجتماعية حيث يتبادل الجالسون عبارات المودة والموافقة من طرف اللسان تسهيلا لتمضية الوقت وإشاعةً لجو الألفة!

ونمضى مع ابن سلام فنسمعه يقول: "كان أوّلَ من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حمادٌ الراوية، وكان غير موثوق به. وكان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار. قال ابن سلام: أخبرنى أبو عبيدة عن يونس، قال: قَدِمَ حمادٌ البصرةَ على بلال بن أبى بردة، وهو عليها، فقال: أما أطرفتنى شيئا؟ فعاد إليه فأنشده القصيدة التى في شعر الحطيئة مديح أبى موسى. قال: ويحك! يمدح الحطئية أبا موسى لا أعلم به، وأنا أروى شعر الحطيئة؟ ولكن دعها تذهب في الناس. قال ابن سلام: أخبرنى أبو عبيدة عن عمر بن سعيد بن وهب الثقفى، قال: كان حماد لى صديقا ملطفا. فعرض علىَّ ما قِبَله يوما، فقلت له: أَمْلِ علىَّ قصيدة لأخوالى بنى سعد بن مالك، لطرفة. فأملى علىَّ:

إن الخليط أَجَدَّ مُنْتَقَلُهْ * ولِذَاك زُمَّتْ غُدْوَةً إبلُُِهْ

عهدى بهم فى النقب قد سندوا * تَهْدِى صِعَابَ مطيِّهم ذُلُلُهْ

وهي لأعشى همدان. وسمعت يونس يقول: العجب ممن يأخذ عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر".

فأما بالنسبة لما اشتهر به حماد من كذب ونحل فإنى أتساءل: إذا كان حماد على هذه الشاكلة من الاشتهار بالنحل والتلفيق، وكذلك باللحن والكسر فوق البيعة بما يعنى أنه من الشعر لا فى العير ولا فى النفير، فما الذى كان يضطرهم إلى اللجوء إليه دائما وسؤاله عما فى جَعْبته من جديد؟ ثم هل من الحتم اللازب أن يعرف بلال بن أبى بردة كل شعر الحطيئة، أَوَكانت ذاكرته قرصا مدمجا سُجِّل عليه كل شعر الشاعر فلا يندّ عنها شاردة ولا واردة من ذلك الشعر؟ كذلك أليس من حقنا أن نسمع رد المتهم على التهمة الموجَّهة إليه؟ لكن للأسف تسكت الرواية عند هذا الحد فلا تعطى المسكين الفرصة لإبداء وجهة نظره! ثم من يا ترى أنبأ الناس بما دار بين بلال وحماد من حوار واتفاقهما فى نهاية الأمر على ترك القصيدة المزيفة تذيع فى الناس؟ إن أيا منهما لا يمكن أن يكون هو راوى القصة، وإلا لكان كمن يحفر قبره بيده. كما أنه لم يكن هناك إلا هما وحدهما كيلا يقول قائل إن شخصا ثالثا هو الذى فضح الأمر. أما لو افترضنا بعد ذلك كله أنْ قد كان هناك شخص ثالث، فإنهما لم يكونا ليجرؤا على قول هذا الكلام بمسمع منه حتى لا يشوها صورتهما فى عينه. وفى "الأغانى" أن المدائنى كان ينسب القصيدة المذكورة للحطيئة فعلا! فما الذى يمكن أن نقوله هنا؟ وهذا هو نص "الأغانى": "وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة. قالها فيه وقد جمع جيشا للغزو فأنشده: "جمعْتَ من عامرٍ فيه ومن أسدٍ"، وذكر البيتين، وبينهما هذا البيت، وهو:

فما رَضِيتَهم حتى رَفَدْتَهمو * بوائلٍ رَهْطِ ذي الجدَّيْن بسطامِ"

ثم هل يقدح خطأ حماد فى نسبة قصيدة أعشى همدان لطَرَفة فى أمانته بالضرورة؟ ألا يمكن أن تكون المشكلة مشكلة ذاكرة لا مشكلة ضمير؟ وهل هذا هو النص الشعرى الوحيد الذى أحاط به الخلاف حول نسبته لصاحبه حتى نذهب فنعلق المشنقة لحماد؟ ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام وجهة النظر الخاصة بأحد الطرفين دون الآخر، وكأن حمادا خَرِس فلم يُحِرْ جوابا وسلّم بما قيل فى حقه. وعجيب أن يقال فى حماد إنه كان ينحل شعر الرجل غيره: هكذا دون إبداء الأسباب. ترى لماذا كان يفعل ذلك؟ أكان مصابا بلُوثَةٍ فى عقله تجعله يتبرع من تلقاء نفسه بخداع الناس وإنفاق وقته وجهده فى ذلك "لله فى لله"؟ وأعجب من هذا أن يقال إنه كان يزيد فى الأشعار رغم ما اتُّهِم به فى ذات الوقت من أنه كان يلحن ويكسر الشعر. يا له من أحمق! لكن ما القول فى الذين كانوا يصرون بعد هذا كله على البحث عنده دائما عن الجديد فى الشعر؟ أليسوا مثله حمقى بل أَعْرَق منه فى الحماقة وأَوْغَل؟ وأعجب من هذا وذاك أن يلقَّب هذا الكذاب الوضاع الخالى من الموهبة الشعرية بـ"الراوية"؟ إن مثل هذا اللقب ليس له فى الواقع من معنى إلا أنهم كانوا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير