تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يحترمون روايته ويقدرونها حتى إنهم لم يَرَوْا فيه إلا أنه "راوية"!

وفى "الأغانى" أن المفضَّل الضَّبِّىّ قد وصفه بأنه "رجل عارف بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يُشْبِه به مذهب رجل ويُدْخِله فى شعره ويُحْمَل ذلك عنه فى الآفاق فتختلط أشعار القدماء". أى أنه كان عالما بالشعر ذا بصيرة نقدية عجيبة فيه وصاحب موهبة وبراعة فى التقليد ومقدرة على خلط الأمور حتى لتتداخل الأشعار الصحيحة والزائفة على يديه فلا يميز بينها إلا عالمٌ خِرِّيت. فمن نصدق يا ترى؟ أنصدق من يرميه بالجهل الفاحش بالشعر وباللحن والكسر فيه، أم نصدق من يصوره بصورة العبقرى الجهبذ الذى لا يعجزه فى هذا الميدان شىء؟

وهناك خبران آخران غريبان فى "الأغانى" مُفَادهما أنه بقى يكذب على الناس ويضع لهم الشعر الجاهلى المنحول على مدى عشرات السنين، على الأقل من أيام الخليفة الأموى الوليد بن يزيد (الذى نجح راويتنا فى امتحانٍ عقده له كى يتثبت أنه يحفظ فعلا لمن لا يعرفهم ذلك الخليفة من الشعراء مائة قصيدة على كل حرف من حروف الألفباء) حتى عصر المهدى الخليفة العباسى حين اكتشف تلاعبه فنادى فى الناس ألا يقبلوا روايته، وكأن الدولة الإسلامية كان من مهامّها نقد الأدب والكشف عن الشعر المنحول! فهل يقبل العقل أن يظل الرجل يضحك على ذقون العرب كل هاتيك العشرات من السنين دون أن يكشفه أحد قبل المهدى العباسى، وكأنه يتعامل مع أمة من الأفدام الأغتام البائسين؟ وأخيرا وليس آخرا نجد ابن سلام يبدأ كلامه قائلا إن الشعر العربى لم يعرف غير الرواية الشفوية، ليعود فيضيف بعد قليل أنه كان هناك قسط كبير منه مقيد فى ديوان عند النعمان بن المنذر وانتهى مطافه إلى أيدى بنى مروان. وذلك القسط، حسب كلامه، هو أفضل الشعر الجاهلى من الناحية الفنية لأنه شعر الفحول ومن مدحوا النعمان وأسرته. وهذا تناقض واضح كما بيَّنّا!

كذلك نقرأ فى "تاريخ بغداد" لأبى بكر بن الخطيب أن أبا عمرو الشيبانى، وهو أيضا راويةٌ كوفىٌّ كحماد، كان يجمع شعر القبائل حتى إذا انتهى من شعر إحداها كتب مصحفا بخطه ووضعه فى مسجد الكوفة. ومع هذا فقد كان خصومه يتهمونه بالسَّرَف فى شرب الخمر رغم إقرارهم بأنه ثقة فى روايته. ويعلق طه حسين قائلا: "وأكبر الظن أنه كان يؤجّر نفسه للقبائل، يجمع لكل واحدة منها شعرا يضيفه إلى شعرائها" (طه حسين/ فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1964م/ 171)، وهو ما يعنى أن من البشر من يظل يقول: "عنزة" ولو طارت، ومنهم طه حسين. فها هو ذا الشيبانى قد اجتمع خصومه وأنصاره على توثيقه، بيد أن طه حسين لا يعجبه العجب، فيتهم الرجل بأنه كان يؤلف الشعر وينسبه إلى شعراء القبائل التى تدفع له. أما من أين أتى طه حسين بهذا الكلام، فينبغى أيها القارئ أن تخرّ على ما يقوله ساجدا ولا تسأل مثل هذا السؤال. وعجيب أن يسرف طه حسين فى الشك فى الشعر الجاهلى حتى ليزعم أنه كله تقريبا مصنوع صنعا، حاطبا بهذه الطريقة فى حبل مرجليوث المستشرق البريطانى الخبيث مع بعض التلاوين التى لا تقدم ولا تؤخر، ثم يصدّق دون أدنى تفكير أو محاولة للتثبت أية رواية تشكك فى علماء المسلمين، بل يخترع لبعضهم الاتهامات اختراعا كما رأينا فى حالة الشيبانى المسكين!

ليس ذلك فقط، بل لقد رفض ابن سلام كل ما رواه ابن إسحاق فى "السيرة النبوية" من أشعار، إذ قال لدن كلامه عن أبى سفيان بن الحارث: "ولأبى سفيان بن الحارث شعر كان يقوله فى الجاهلية فسقط، ولم يصل إلينا منه إلا القليل. ولسنا نعد ما يروى ابن اسحاق له ولا لغيره شعرا. ولأن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذاك لهم"، لنفاجأ به يروى عدة من الأشعار التى رواها ابن إسحاق، وفى نفس كتابه هذا الذى سبق له فيه رفض أى شعر رواه ابن إسحاق: فقد روى قصيدة أبى سفيان بن الحارث الدالية التى يقول فى مطلعها:

لَعَمْرُكَ إنى يومَ أحمل رايةً * لتغلب خيلُ اللات خيلَ محمدِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير