تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أَهِمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظهره مُبْهَمًا غُفْلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعْرَف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها".

وقد يصح أن نقول إن الجاحظ يبالغ فى كلامه وإنه إنما كان يريد فقط ضرب المثل، ومع هذا تظل العبرة قائمة فى أن مثل ذلك الأمر هو من الممكنات. والجاحظ لا ينتسب إلى العصر الجاهلى، ولا إبداعه ينتسب إلى عالم الشعر. وقد يقول لى قائل: وماذا تريد من أدلة بعد الإقرار الجاحظى؟ أوليس الإقرار هو سيد الأدلة كما يقولون فى القضاء؟ نعم لكن بعد تمحيص هذا الإقرلر، فقد يكون الشخص المقرّ قد أقرّ لسبب آخر غير إبانة الحقيقة، بل قد يكون أقرَّ لتضليلنا عن الحقيقة. وكثيرا ما يحدث هذا، وهو من الأمور المعلومة من الدنيا بالضرورة.

وفى هذا المثال بالذات فإننا نتساءل: أين تلك الكتب التى نسبها الجاحظ إلى ابن المقفع مثلا؟ وما أسماؤها؟ ولماذا لم يذكر لنا صاحبها هذه الأسماء؟ إن لابن المقفع كتبا قليلة معروفة هى: "كليلة ودمنة" و"رسالة الصحابة" و"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" ليس إلا، وليس من بينها ما يشبه أسلوبه أسلوب كتب الجاحظ، ولا روحه روح الجاحظ، ولا فكره فكر الجاحظ. كما أنه لم يقل أحد من القدماء قَطُّ من معاصرى الجاحظ أوممن جاؤوا بعده إن هذا الكتاب لابن المقفع أو لغيره ممن أومأ إليهم الجاحظ إنما هو للجاحظ لا لهم. أولو كان ما قاله الجاحظ صحيحا على حرفه أكانوا يقرأون كلامه ويسكتون دون أن يعيّنوا هذه الكتب أو يناقشوا هذا الكلام على الأقل؟ أريد أن أقول إننا أحرياء ألا نصدق كل ما نقرأ حرفيا، بل علينا أن نمحص الأمر كلما بدا لنا منه شىء مستغرب لنرى مدى معقوليته تاريخيا ومنطقيا ونصوصيا ... وهكذا. ومن شأن هذا الأمر كذلك أن يحجزنا عن العكوف على ما قال ابن سلام أو غيره فى مسألة الشك والنحل فى شعر الجاهلية عكوف المصدِّق، بله المقدِّس. وهو ما أعالج أن أصنعه فى هذه الصفحات. وهذا الكلام بدوره ينطبق على ما قيل عن ابن المقفع من أنه كان يترجم كتب الزندقة والإلحاد كى يغرى المسلمين بترك دينهم، إذ أين مثلا تلك الكتب المزعومة طوال كل هاتيك القرون؟

وهناك كتاب "إعراب القرآن"، الذى نُشِر لأول مرة على أنه منسوب للزَّجّاج، وقال محقق الكتاب فى مقدمته إنه لأبى طالب المكى، لينتهى الأمر بعد ذلك إلى أنه للباقولى. ومثله كثير من الكتب التى ظلت تنسب إلى غير أصحابها ككتاب "نقد النثر الذى كان يُظَنّ أنه لقدامة بن جعفر قياسا على كتابه: "نقد الشعر"، ثم اتضح أنه لأبى الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب.

وفى"الإمتاع والمؤانسة" لأبى حيان التوحيدى عن الصاحب بن عباد: "أما الكتّاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجِعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمة نخوة وبغيا، وتجبرا وزهوا. ومع هذا يخدعه الصبى، ويخلبه الغبى، لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: "مولانا يتقدم بأن أُعَار شيئا من كلامه ورسائله، منظومه ومنثوره، فما جُبْتُ الارض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلا لأستفيد كلامه، وأَفْصُح به، وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سُوَر قرآن، وفِقَره آيات فرقان، واحتجاجه فى أثنائها برهان. فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص". فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه، ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الوَرَق والوَرِق، ويسهل الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكن من مجلسه، فهذا هذا. ثم يعمل في أوقات كالعيد والفضل شعرا، ويدفعه إلى أبى عيسى بن المنجم، ويقول له: قد نحلتك هذه القصيدة. امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من المنشدين. فيفعل ذلك أبو عيسى، وهو بغدادى محكَّك قد شاخ على الخدائع وتحنَّك، وينشد، فيقول له عند سماعه شعره فى نفسه، ووَصْفه بلسانه، ومَدْحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنك والله مجيد. زَهٍ يا أبا عيسى! قد صفا ذهنك، وجادت قريحتك، وتنقحت قوافيك. ليس هذا من الطراز الاول حين أنشدتنا في العيد الماضي. المجالس تخرج الناس، وتهب لهم الذكاء، وتزيدهم الفطنة، وتحول الكودن عتيقا، والمحمر جوادا. ثم لايصرفه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير