إلى أن قال: (وسورة الفلق فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عموماً وخصوصاً، ولهذا قيل فيها برب الفلق وقيل فى هذه برب الناس فإن فالق الإصباح بالنور يزيل بما في نوره من الخير ما فى الظلمة من الشر وفالق الحب والنوى بعد إنعقادهما يزيل ما فى عقد النفاثات فإن فلق الحب والنوى أعظم من حل عقد النفاثات وكذلك الحسد هو من ضيق الإنسان وشحه لا ينشرح صدره لانعام الله عليه فرب الفلق يزيل ما يحصل بضيق الحاسد وشحه وهو سبحانه لا يفلق شيئا إلا بخير فهو فالق الإصباح بالنور الهادي والسراج الوهاج الذي به صلاح العباد وفالق الحب والنوى بأنواع الفواكه والأقوات التى هي رزق الناس ودوابهم والإنسان محتاج الى جلب المنفعة من الهدي والرزق وهذا حاصل بالفلق والرب الذي فلق للناس ما تحصل به منافعهم يستعاذ به مما يضر الناس فيطلب منه تمام نعمته بصرف المؤذيات عن عبده الذي إبتدأ بإنعامه عليه وفلق الشيء عن الشيء هو دليل على تمام القدرة وإخراج الشيء من ضده كما يخرج الحي من الميت والميت من الحي وهذا من نوع الفلق فهو سبحانه قادر على دفع الضد المؤذي بالضد النافع). وقال في موضع آخر: (في الفلق أقوال ترجع إلى تعميم وتخصيص فإنه فسر بالخلق عموماً وفسر بكل ما يفلق منه كالفجر والحب والنوى وهو غالب الخلق، وفسر بالفجر وأما تفسيره بالنار أو بجب أو شجرة فيها فهذا مرجعه إلى التوقيف).
وقد أخذ هذا المعنى تلميذه النجيب ابن القيم وحبره تحبيراً حسناً فقال في بدائع الفوائد (2/ 198): (فصلٌ: واعْلَمْ أنَّ الخلْقَ كلَّه فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ.
واللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فالِقُ الإصباحِ وفَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى وفالِقُ الأرضِ عن النباتِ، والْجِبالِ عن العُيونِ، والسَّحَابِ عن الْمَطَرِ، والأرحامِ عن الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا،
يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ وفَلَقِه.
وكما أنَّ في خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الْحَقَّ والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يَفْرُقُ ظلامُ الليلِ بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ ونَصْرَه فُرْقَانًا لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]).
وتفطن إلى أن ابن القيم يرى أن الفلق يعم الخلق والأمر، وهذا له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري
وأرجو ألا أكون خرجت بالموضوع عن مقصده الأساسي، ولكن ضرورة رفع الإشكال لزملائي طلبة العلم استوجب مني هذه الوقفة، وإن كان ماذكرته لا يعبر عن مافي نفسي بدقة، ولعل وقفة أخرى بعون الله أبين فيها ذلك، والله الموفق
بل كان استطراداً نافعاً بارك الله فيك، ونفع بك. وننتظر وقفاتك الأخرى سددك الله وأعانك.
ـ[محمد عمر الضرير]ــــــــ[02 May 2009, 08:01 ص]ـ
ما شاء الله، زادك الله علما وحكمة وحلما شيخنا الفاضل.
وماكنت أحسب مداخلتي الهزيلة، تكسبني وإخوتي في الملتقى ما تلقفناه من جميل بيان وثمين درر.
والحقيقة وما لا أخفيه أكثر، أن سريرة نفسي وميل عقلي يوافقك إلى حد كبير، إنما ضعف علمي، وقلة بضاعتي، ونقص زادي، يحتم علي التوقف.
ولعلي لن أطيل المكث في معظم ما ذكرت إذ لا غبار عليه، ولا نقص يعتريه، إنما سأتوقف مع فضيلتك في مثل قولك
كلام ابن كثير ههنا غريب لأمرين:
الأمر الأول: أن ابن جرير لم يرجح القول الأول الذي ذكر، ...
الأمر الثاني: أن مستنده في الترجيح لم يكن إلا اختيار البخاري وتوهمه ترجيح ابن جرير.
وهذا يثير الكلام على مسألة مهمة من مسائل قواعد التفسير وهي هل يؤخذ بترجيحات المحدثين فيما مستنده اللغة؟
والذي خلصت إليه بعد تأمل:
أن المحدث إذا كان عالماً باللغة ورجح قولاً على قول بمستند لغوي فقوله معتبر كسائر أقوال علماء اللغة، وينظر فيه كما ينظر في سائر المسائل اللغوية.
¥