وبينه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، قال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44]
وهذا التبيين شامل لبيان معاني القرآن وألفاظه، وهو من سنته، وسنته وحي من ربه، فالسنة مفسرة للقرآن وموضحة له، قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].
وقال صلى الله عليه وسلم "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" رواه أحمد وأبو داود.
واجتهد الراسخون في العلم من علماء الأمة وفقهاء الملة، في بيان معاني القرآن وتفسيره، وكشف الغطاء عن وجوه بلاغته وعلومه، مؤتمين برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم أهل الاختصاص بتفسير كتاب الله -تعالى- من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ وذلك لكمال درايتهم بمشاهدة التنزيل، ولما ميزهم الله به من الفهم والفقه في دينه، والعلم الصحيح، وسلامة السليقة ونقاء العربية.
ثم تسلم التابعون لهم بإحسان هذا الميراث الشرعي، فدرجوا فيه على سننه المذكورة: التفسير بالقرآن، وبالسنة، وبتفسير أشياخهم من الصحابة -رضي الله عنهم- وتنامت على أيديهم مدارس التفسير بالأثر في داري التنزيل: مكة والمدينة، -حرسهما الله تعالى- ثم في الكوفة، وغيرها من أمصار المسلمين.
وتنقل هذا الميراث المبارك من طبقة إلى أخرى، وقد أُولع المفسرون به حتى تكوَّنَ من ذلك أعظم مكتبة في العلوم الإسلامية، وأوسعها دائرة، واتضح أن طرق التفسير خمسة: تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، وبأقوال التابعين لهم بإحسان، وباللغة العربية.
وما اختلف فيه الصحابة -وهو قليل- أو التابعون، فالمرجع فيه إلى الطريقين الأولين، وإلى لغة العرب.
وقد تنوعت المشارب في التفسير بعد عصر الصحابة والتابعين، ففسر القرآن -أحيانا- بالرأي المخالف لصحيح المأثور، ولقواعد اللغة العربية.
ومنه التفسير الباطني، الذي ينكر دلالة بعض الآيات حينا، ويحملها على غير المراد منها حينا آخر.
وفسر القرآن -أحيانا- بالروايات الضعيفة أو الموضوعة.
وهذا وذاك تحريف للكلم عن مواضعه، وبعد عن سبيل القرآن وهدايته: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 146].
ولهذا أفاض العلماء -رحمهم الله تعالى- في بيان تحريم هذين الاتجاهين، والدعوة إلى تخليص كتب التفسير منهما.
وكان من أعمالهم المسددة، توجيه الأنظار إلى تأصيل أصول التفسير وقواعده، وضوابطه، لحماية كتاب الله، وتنقية تفسيره مما داخله؛ ليبقى في أحضان مدرسة الأثر، فانتشرت مؤلفاتهم الحافلة بذلك.
إن تلاوة كتاب الله، وتدبر آياته، وتفهمها، سنة ماضية في حياة المسلمين، قال ابن جرير -رحمه الله تعالى-: (إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته؟).
وإن إعانة المسلمين التالين لكتاب ربهم على فهم آياته، والتزود بمقاصده، ونفوذ سلطانه على النفوس، وردهم إلى الاستمساك بالوحي، والإذعان لحكمه، وتحصيل المقاصد منه: اعتقادا وقولا وعملا من أوجب الواجبات، وأعظم الأعمال الصالحات، وهذا من نصرة المسلمين، وإعانتهم، وتثبيت الإسلام في قلوب أهله، والدعوة إليه على بصيرة في العالمين.
من هنا تتبين حاجة الأمة إلى وجود تفسير مختصر، على ضوء مدرسة الأثر، في عهدها الأغر، في محيط أصول التفسير، وقواعده، وطرقه، يعين التالي لكتاب الله بما تطمئن له القلوب، وتتأدى به أمانة المفسِّر، وأمانة التفسير؛ لأن القارئ لكتاب ربه، الذي يريد الوصول إلى المقصد الأول من التفسير، وهو فهم الآيات الكريمة على معناها الصحيح، استهداء بقول الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]، وهو من غير المتخصصين، يجد أمامه من التفاسير ما لا يصل منها إلى ما يريد؛ لطولها وتعدد الأقوال، أو لصعوبة فهمها، أو لاختلاطها بما داخلها مما لا يصح رواية ولا دارية.
¥