وذلك أن الذي يحتاج إلى توكيد هو ما كان مشكوكًا فيه، وأن زمن العذاب والحساب في علم الغيب، وغير قائمين، ويتوعد بهما في زمن قادم؛ وعلى ذلك كان حذف الألف.
وحذفت الألف مع القسم؛
في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) الواقعة.
وذلك أن القسم هو لتوكيد ما هو مشكوك فيه، والله تعالى لا يقسم بلفظ القسم؛ لأن القسم دال على قِسْمَين مختلف فيهما، والتبس الحق فيهما، فيُحتاج القاضي إلى القسم من المتنازعين لتقوية أحدهما، والأشياء عند الله تعالى على حال واحدة لأنه سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة، فقسم الله جاء في ثمانية مواضع بالنفي بلا، وعلى ذلك كان حذف الألف بالمقسوم به.
والقسم من الناس كان في ثمانية مواضع، وكانوا فيها من الكاذبين.
وقد تبين لنا بعد تقدم العلم، أن مواقع النجوم التي نراها هي مواقع قديمة قد تمتد إلى زمن مضى منذ ملايين السنين، وغير قائمة في الوقت الذي نراه في أيامنا هذه. فكان الحذف موافق لما عليه واقع النجوم التي نراها.
وثبتت الألف مع تأنيث "الواقعة"، حيث وردت مرتين؛
في قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (1) الواقعة.
وفي قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) الحاقة.
لأن الحديث في الآية عند تحقق وقوع الواقعة، أو وقت تحققها، وعند ذلك يثبت قدومها، ولا زوال لها، ولا انقطاع لها، أو انتهاء استمرارها؛ فثبتت لذلك ألف فيها.
ووردت في هذه الآيات؛ الظالمين، والكافرين، والصادقين؛ وهي جموع مذكر سالم، والقاعدة فيها، أن الجموع تحذف ألفاتها على قاعدة دخول الفرد في الجمع وتساويه مع أفراده، وعدم تميزه عن غيره إلا بقرينة.
ومثل ذلك" الصالحات؛ فالألف الأولى حذفت على نفس القاعدة؛ لدخول الفرد وتساويه مع أفراد الجمع، وحذفت الألف الثانية علامة الجمع لتساوي أفراد الجمع وعدم تميز بعضها عن بعض.
وتحذف ألف ضمير الجمع للمتكلم "نا"؛ إذا اتصل به ضمير المخاطب؛ كما في: ءاتَيْنَاكُمْ؛ لأن الضمير المتكلم هو فاعل، وما بعده مفعول به، ولا يقع فعل الفاعل على المفعول به إلا إذا كان بينما اتصال، وإثبات الألف قطع للاتصال، وحذفها يوصل بينهما، في صورة الكلمة، وما فعله الفاعل انقطع عن الفاعل، ووصل إلى المفعول به، وعلى ذلك كان حذف ألف الفاعل أينما وجدت في القرآن.
أما ثبات ألفي "روضات الجنات" فيرجع إلى الإضافة؛ فكل روضة مستقلة في ذاتها عن الروضات لأنها ملحقة بإحدى الجنات، وكل جنة لها الروضة الخاصة بها، وعلى ذلك ثبتت ألف كل منهما؛ لتميز كل روضة عن بقية الروضات، وكل جنة عن بقية الجنات.
وثبتت ألف "عذاب" أينما جاءت في القرآن؛ لأن العذاب أشكال وأنواع كثيرة ومتفاوتة.
وثبتت ألف "دافع"؛ لأنه في وضع النفي؛ والنفي هو نفي لقيامه، وعلى ذلك ثبتت ألفه.
والله تعالى أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلمة السادسة عشرة
حذف وإثبات ألف مبارك ومباركة
ورد لفظ "مبارك" في أربعة مواضع؛ ثبتت ألفه في الثلاثة الأولى، وحذفت في الرابعة؛
في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) الأنعام.
وصف الكتاب بأنه مبارك دلالة على ثراء هذا الكتاب بالإقامة عليه، والاستغناء عن البحث عن الخير في غيره، فهذا الوصف خاص بالقرآن الكريم، ولم يوصف كتاب في القرآن بأنه مبارك غير القرآن الكريم.
وكذلك الأرض المبارك؛ هي الأرض الكثيرة الخيرات التي يستقر فيها أهلها، ولا يرحلون عنها، استغناء عن الحاجة وطلب الخير في غيرها،
ومن ذلك البركة التي استقر الماء فيها بعد ذهاب السيل وانقطاع مائه.
وبروك الناقة هو قعودها عن الذهاب إلى المرعى، وملازمتها مكانها عن شبع فيها، فهو قعود لها مقيد بالشبع، وكانوا يقيمونها لحلبها، لتبرك في محلها بعد ذلك.
فوصف الكتاب بأن مصدق لما بين يديه، بإعادة ذكر ما ورد من السير والقصص في الكتب السابقة؛ ما أغنى عن الرجوع إليها، فمد بقاء هذه القصص،
وإنذاره لأم القرى هو إحياء لها، ومدها لتأخذ بالإيمان، والأعمال الصالحة وعلى رأسها الصلاة؛ فعلى ذلك كان ثبات ألف مبارك في الرسم.
¥