المقصود بالتراث الإسلامي هنا هو تلك العلوم والمصنفات التي وضعها العلماء السابقون من المسلمين، ولا يدخل في هذا التراث الوحي كتاباً ولا سنة؛ وإنما يقتصر على أقوال العلماء التي لا قداسة لها؛ إذ أنها مجرد آراء نيرة لعلماء أصحاب عقول نيرة، وهذا التراث الإسلامي على عظمته ورفعة شأنه ليس ملزماً في الأخذ به، وليس المقصود بعدم الإلزام هنا إهماله وضرب الصفح عنه؛ وإنما المقصود أنه ليس كالقرآن والسنة في وجوب الالتزام به. ومهما يكن من أمر فان تراثنا الإسلامي العظيم رغم عدم قدسيته وإلزاميته- لا يمكن للعالم أو طالب العلم تجاوزه أو إهماله كما يفعل الكثيرون اليوم من أدعياء العلم والمعرفة.
ولما كان الأمر كذلك فقد اتضح أن هنالك أوجهاً مغلوطة للتعامل مع التراث الإسلامي العظيم وهي:-
أ - الرفض المطلق:
من الأمور الخاطئة في العصر الحاضر مسألة تجاوز التراث الإسلامي وإهماله بحجة أنّ العلماء السابقين "رجال ونحن رجال". وهذه القضية -إن استخدمت في هذا الجانب - فما هي إلا دعوى حق أريد بها الباطل، إذ ليس من المعقول إطلاقاً نبذ هذا التراث الإسلامي العظيم وجهود العلماء الفذة والبدء من جديد، إذ أن هنالك الكثير من القضايا قد طرحها علماؤنا الأقدمون بعمق شديد لا تجد له مثيلاً في وقتنا الحاضر؛ ولأجل ذلك كان رفض التراث الإسلامي أمراً خاطئاً لا يقول بصحته عاقل قط.
ومن الثابت أن علماءنا الأقدمين قد كانوا أكثر معرفة بالوحي وطرق الاستنباط الصحيح للمعاني- إلا أنه يمكن استدراك كثير من الأمور عليهم، إذ ما هم- في نهاية المطاف - إلا بشر، ومعلوم أن البشر مهما بلغوا من العلم والمعرفة فانهم يعتريهم الضعف والقصور؛ ولأجل ذلك صح قول الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" مشيراً إلى قبر الرسول ( e).
ب-القبول المطلق
عول علماؤنا الأقدمون على العقل وذموا التقليد ذماً شديداً، ولم يكن هنالك من شيء امقت لهم من هذا التقليد الذي هو إتباع للغير دون مطالبة له بالدليل. ولما كان الأمر كما سبق، فقد اتضح اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أنّ التقليد الأعمى للعلماء السابقين دون معرفة مناهجهم وأصول آرائهم يعتبر طريقاً خاطئاً؛ فلو أن العلماء السابقين قبلنا كانوا قد اكتفوا بما ورثوه من العلماء قبلهم لرأينا صرح العلم مختلاً وبنيانه متهدماً؛ ولما كان هنالك من تراث إسلامي عظيم نفخر به الآن.
ج- الانتقاء العشوائي:-
إنّ من أخطر الأمور في تعاملنا مع التراث الإسلامي وأقوال العلماء السابقين قضية الانتقاء العشوائي دون معرفة الرأي المتكامل. ومعلوم أنّ الفكر لا ينشأ من العدم ولا ينبثق من الفراغ بحال، بل لا بد للعالم من مؤثرات فكرية تشكل رأيه وتبلور أفكاره، كما أنّ لكل عالم منهجه الذي يحكم قضية الفكر عنده؛ فلو لم نراع جانب المنهج وجانب المؤثرات الفكرية للعلماء لأصبح انتقاؤنا لآراء لعلماء انتقاءً عشوائياً خاطئاً.
وهذا الانتقاء العشوائي من شأنه أن ينسب إلى العلماء آراء ليست بالصحيحة إذ أنّ الرأي قد يكون متعلقاً بأمر ما من جهة أو قد يكون العالم قد تراجع عنه في مصنف آخر له. ولأجل ذلك فقد اتضح أن التعامل المنهجي مع تراثنا العظيم ضرورة منهجية تقتضيها عملية إعادة بناء العلم واستئناف مسيرته.
6 - التعامل مع التراث الغربي
ما قيل عن التراث الإسلامي ينطبق على التراث الإنساني المعاصر. وهو ليس حكراً على الحضارة الغربية إذ إنّ الإسلام لا يقف موقف العداء من عطاء الآخرين بل هو يتقبل كل فكر يتماشى مع مبادئه ولذلك فإنّه يجعل البحث عن الحكمة ضالة المؤمن فأنَّى وجدها فهو أحق بها.
ولأجل ذلك لا يمكن رفض المعرفة التي عند الأمم غير المسلمة أصلاً، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه؛ بل لا بد للمسلم من ضوابط يتم تكوينها من داخل عقيدته السامية؛ وهذه العقيدة إنما هي بمثابة المصفاة التي تحصنه من تلك الآراء الفاسدة التي من المحتمل وجودها في تراث الأمم غير المسلمة. ويشهد تراثنا الإسلامي اهتمام المسلمين القدماء بتراث الأمم الأخرى وترجمته إلى العربية للاستفادة منه؛ إذ ليس العلم -حسب رأيهم -حكراً على أحد.
¥